Saturday, August 29, 2015

حرّر عقلك 5

هل توجد أخطاء داخل المصفوفة؟ هل يمكن أن نتحدث عن أخطاء أصلا في عالم الخيال العلمي؟ و هل تعتبر أخطاء تلك المتعلقة بالتصوير و التركيب و المسائل اللوجستية؟ و أخيرا، إلى أي مدى يمكن أن تؤثر هذه الأخطاء على رؤيتنا و على موقفنا من هذا الفيلم؟

لن أجيب عن هذه الأسئلة باستفاضة كبيرة لأن طول الفيلم ساعتان و ربع و هو يحشد بالمشاهد المعقدة و الحركة التي تطلبت جهدا كبيرا في إنجازها، كما أن القصّة على بساطة خطّها السردي، فهي تنضوي في سياق خياليّ معقد جدا و متشابك، ما يجعل كلّ صنتمتر فيها مليئا بالفجوات و فاتحة لنقاشات طويلة، و مجادلات قد لا تنتهي بخير إذا كان مجادلك من المغرمين المتعصّبين للفيلم.

لكن من الضروريّ الإحاطة بأهمّ هذه الملاحظات، خصوصا و أن الأسطورة تقول : الماتركس متماسك إلى حدّ يجعله خاليا من الأخطاء. و الأخطاء لا يمكن أن تبدأ بالظهور إلا حينما يتخلّى المشاهد عن انبهاره الأعمى بما يشاهد، و يدرك أن لا فيلمَ بدون أخطاء. فما هي فجوات المصفوفة؟

يمكن أن نبدأ بالأخطاء الفنّية و التقنية، حيث يوجد الكثير منها، و لا أجد داعيا للتركيز عليها. هذه الأخطاء هي الدليل أن من أنجز الفيلمَ بشرٌ مثلنا، و هذا ما يزيد ـ بنظري ـ في تميّز الماتركس و تفوّقه. اِنعكاسُ محتوى شاشة الكمبيوتر على Neo و هو نائم كأنّه جهاز إسقاط Projector بينما هي شاشة عادية، اِنعكاسُ Neo و هو جالسٌ على نظارتيْ العميل Smith في وقت يفترض أن يكون فيه واقفا (مشهد انغلاق فمه في غرفة التحقيق)، الجدار الذي يتهدّم ببداية القتال لنجده في المشهد الموالي سليما، بعض المعلومات التي تنقصها الدقة كوصف الفيروس بالكائن العضويّ organism، وجود بعض العلامات الدالّة على أنّ الأحداث لا تدور في شيكاغو رغم أسماء الشوارع التي حاول المخرجان إيهامنا بها (وجود كلمة lift عوضا عن elevator لا يمكن أن يكون في مدينة أمريكية)، الريح التي تجد لها محلاّ في محطّة ميترو تحت الأرض، كلّها أخطاء تفصيلية يمكن التغاظي عنها حينما نقارنها بالتفاصيل الدقيقة الأخرى التي اعتنى بها المخرجان. ففي فيلم يجد لوقع الأمطار على الأرض، و لمسح زجاج النوافذ تأويلا ذا دلالة مهمة، لا نملك ترف الوقوف على أشياء كهذه.

لكنّ الأخطاء تتجاوز ذلك إلى السيناريو، و هي تنقسم إلى قسمين، أخطاءٌ تفصيلية، كان يمكن تفاديها بعناية أكبر، و أخرى جوهرية، تضرب جوهر السيناريو، و ربما تقتل الفيلم أيضا. لكن قبل الحديث عن ذلك، يجب أن نناقش فكرة الخطإ هنا : فأغلب المتعصبين للماتركس، يعتبرون أن التناقضات المنطقية لها إجاباتها في الأفلام اللاحقة، و في الأعمال الموازية الأخرى و هذا ما يخرجها من دائرة الخطإ. و هو أمر يمكن تفهّمه أحيانا، و يردّ في أحيان أخرى. فالأساس في النقد، هو أن الفيلم عملٌ قائم بذاته، و لا يمكن الحكم له أو عليه انطلاقا من عمل آخر. يمكن أن نقول إن نقطة ما في الفيلم تركت بلا تفسير واضح (مثل عملية التكاثر بين البشر المستعبدين) و هذا لا يحتسب خطأ بقدر ما يحتسب في بعض الأحيان كنقطة ضعف في القصة للتناقض أو اللامنطق الذي تفرضه (يكتفي الماتركس الأول بذكر أن الآلات تربّي البشرَ لتتزوّد منهم بالطاقة اللازمة، في حين أن الطاقة التي يفرزها البشر تضاهي الطاقة التي يستهلكها، ما يجعل من المسألة عبثية. في أعمال موازية، يذكر الأخوان أن المادة المستهلكة هي البشر الذين ماتوا، حيث يتحولون إلى ذلك السائل الذي يتغذى منه البشر، مع ذلك يبدو أن الطاقة المطلوبة لصنع ذلك السائل لم يقرأ لها حساب، ربما في أعمال موزاية للأعمال الموازية!) لكن في أحيان أخرى، نجد أخطاء لا تصلحها التنقيحات و الاجزاء و لو بعد عشرات الأعمال الموازية، خصوصا تلك المقترنة بالسيناريو. سوف نترصد الأخطاء الواضحة منها حتى تتوضح لنا الرؤية.

أولى الأخطاء الشنيعة في الفيلم، هي تلك المتعلقة بالبرغوث المزروع في بطن Neo. يفترض من ذلك البرغوث أن يكون أشبه بجهاز تتبع يقود العملاء إلى مورفيوس. فهل هناك حاجة إلى جهاز كهذا حين نعرف أن العملاء قادرون على تتبع Neo في أي مكان يذهب إليه داخل الماتركس؟ يظهر هذا الخطأ بشكل أكبر في المشهد السابق، أي في مكاتب شركة Metacortex، حيث يبدو أن مورفيوس الذي يمثل دخوله إلى الماتركس نوعا من القرصنة، أكثر دراية بإحداثيات العالقين في المصفوفة (مثل Neo) من العملاء الذين هم داخل الماتركس بصفة رسمية و لهم صلاحيات شبه مطلقة داخلها. مورفيوس من خلال محادثة الهاتف، أثبت أنه لا يعرف خريطة المبنى فحسب، بل يعرف موقع مكتب Neo تماما، بينما كان العميل Smith يسأل عن موقع المكتب و يبحث عنه... حتى لو افترضنا أن البرغوث كانت له مهمّة أخرى (و هو ما لم يتمّ التصريح به، ما يجعل المشهد كلّه غير ذي فائدة على السيناريو) فالمشكلة تظل مطروحة : لماذا لم يتبع العميل Smith تحركات Neo رغم أنهم يعرفون أن مورفيوس سوف يتصل به؟ لقد طال مشهد لقاء Neo برفاق Morpheus تحت الجسر دون أن يتدخل أيٌّ من العملاء، و لم يتبعوهم إلى حيث البيت الآمن، و تمت العملية الطويلة من دون مشاكل.

لو واصلنا مع مشكلة المراقبة، سنجد أخطاء أخرى، مثلا، يخبرُ مورفيوس Neo عبر الهاتف أن الخطّ مراقب، لكنّه يدعوه إلى القدوم عند الجسر. هل تراه يدعو العملاء بصفة غير مباشرة؟ الأغرب أن العملاء لم يأتوا، و ربما هم لم يراقبوا أصلا! ثمّ ما الداعي من لعبة الأرنب الأبيض؟ لو أن الفتاة كانت تبدي كتفها الأيمن، لفسدت اللعبة كلها و لما قابل Neo حبيبته المستقبلية، و لظل يتساءل عن حكاية الأرنب الأبيض التي ظهرت على الشاشة! لكن لنفترض أنّ الأمر من تجلّيات العرافة Oracle، لماذا جلب الفتى إلى ملهى ليليّ و إخباره فقط أنه يجب أن يعرف الحقيقة، و يجب أن يقابل مورفيوس؟ ألم يكن بإمكان مورفيوس أن يخبره بهذا عبر الهاتف مثلما فعل حين حاول تهريبه من عمله؟


بالمناسبة، هناك الكثير ممّا لا نملك إلا افتراض نسبته للعرّافة : ما أرسلته Trinity لـNeo عبر الكمبيوتر و هو نائم، يفترض أنها تعرف بالضبط متى سينهض (و إلا فبرنامج الدردشة الصامت من أيقظه و هذا أقل منطقية بكثير)، و يفترض أنها تعرف بالضبط من ستأتي مع الزبون، و متى، و ماذا تلبس (يجب أن تعرّيَ كتفيها ليظهر الأرنب) و كيف تقف (لو أنها وقفت بطريقة معكوسة لما رآه) باختصار يجب أن تعرف أمرا مستقبليا مستحيل المعرفة إلا على الأوراكل. أيضا من المحال أن يعرف مورفيوس لوحده أنّ Neo حالما يستلم المظروف سوف يفتحه، أو أنه سوف يبقى هناك في المكتب، إلا لو أخبرته العرّافة بذلك مسبقا، أما الأهم، فكيف عرف مورفيوس بأنّ Neo هو الفتى المخلّص؟ أعني أنه مجرد قرصان كمبيوتر يبحث عن حقيقة الماتركس. لو عدنا إلى عدد سكان Zion (أعلم أن أغلبهم ولدوا هناك) فالمفترض أن Neo ليس الوحيد الذي يبحث عن الحقيقة. ربما أخبرته العرافة أن المخلّص إسمه Neo، لكن من أدراه أنه ليس الشخص المطلوب؟ هل هو مجرد حدس؟ إيمان؟ الإيمان يقوم على حدّ أدنى من الحقائق أو المعلومات : يمكن لشخص أن يؤمن بالمسيح، لأنه يعرف عنه قصة إحيائه للميت، و شفائه للأبرص، أو قصة صلبه و عذابه الخ.. فماذا يعرف مورفيوس عن Neo؟ ربما تفاصيل أخرى من عند العرّافة. لماذا تتحدث بكل هذه التفاصيل خارج مشاهد الفيلم، و حين تظهر أمامنا يصبح الإلغاز هوايتها المفضلة؟

في الماتركس محاولات لتفسير بعض الظواهر، مثل ظاهرة "شوهد من قبل" Déjà Vu. لو أنّ أحدا منا عاش هذه التجربة (كانت الظاهرة تربكني كثيرا أيام الطفولة) لعرف قطعا أنّها لا تشبه مطلقا تلك التي عاشها Neo خلال الفيلم. المرء لا يشاهد أمرا مرتين متتابعتين بهذا الشكل، المرء يشاهد شيئا فيشعر كأنه عاشه من قبل، من زمن بعيد. لكن هذا لا يسبب مشاكلا في السيناريو، المشكلة الحقيقية قد نجدها أكثر في ظاهرة تغطية الشمس من قبل البشر، كما أخبرنا مورفيوس، لمنع الآلات من مورد طاقة لا ينضب. هذا يفترض أن هذه الآلات لا تملك القدرة على الطيران، و لا على بناء الأبراج الشاهقة التي ترتفع فوق السحب، لكنّ الصور التي جاءتنا من مدينة الآلات تثبت عكس ذلك تماما. الأكثر ابتذالا سنجده في الجزء الثالث، حينما تعلو مركبة Neo فوق السحب بسهولة تماما لتواجه الشمس. كيف يفترض منّي أن أصدق أن تلك الأخطبوطات الشرسة لا يمكنها ذلك؟ ثمّ كيف يمكن للبشر العيش في بيئة معدومة الشمس؟ من أين سيأتي النبات؟ من أين ستأتي المعادن و البروتينات و الفيتامينات؟

أخيرا، كان موت الشخصيات في الفيلم خاضعا لهوى الكاتبين أكثر من منطق الأشياء. فNeo لا يجب أن يموت قبل المشهد الأخير، و ترينيتي يجب أن تظل بخير، و مورفيوس يجب أن ينقذه Neo، أما Tank فيجب أن يقتل Cypher بعد أن يقتل من يقتل. من أجل ذلك كله، كان إطلاق الرصاص الكثيف و المرعب على الجدار من قبل العملاء، غير كاف لقتل الفريق المختبئ خلفه، و لذلك أيضا، لم يحضر العملاء بالعدد الكافي للإيقاع بفريق من المتمردين يضم أخطر المطلوبين على الإطلاق، و لذلك أيضا، كان وابل الرصاص الجهنّمي الذي أطلقه Neo من المروحية دقيقا إلى درجة استبعاد مورفيوس الذي كان جالسا بجانب العملاء، و لذلك، كان على العميل الذي وجه مسدسه إلى Neo على السطح أن يقول شيئا ما قبل أن يطلق الرصاص، شيئا كفيلا بترك الوقت اللازم لترينيتي لقتله و قول العبارة الشهيرة "Dodge this". و لأنّ حاجة كائنات الذكاء الاصطناعي للتعليق قبل القتل ليست كافيا، فقد أتحفنا المخرجان أيضا بطريقة Cypher الرومانسية جدا : يقتل الأقل أهمية في البناء القصصي مثل سويتش، و يترك ترينيتي و مورفيوس و Neo للنهاية... 

يبدو أن الأخطاء أكثر ممّا ذكرت، ما يجعل تقييم الماتركس يحتاج إلى مراجعة صغيرة و تحويله من فيلم مقدس، إلى فيلم متميّز. فمثلما ذكرت سابقا، لا يمكن لفيلم يعجّ بكل هذه الأفكار و الرموز أن يخرج أنيقا، ممتعا، سلسلا، و هذا ما نجح فيه الماتركس. بشيء من المرونة، كان يمكن للفيلم أن يتفادى أغلب الأخطاء التي ذكرت، لذلك و نظرا إلى الجاذبية التي تميّزه، من الصعب التوقف طويلا عند هذه الأخطاء. إنها فقط أخطاء لمحو القداسة، و ليست للحطّ من قيمته. لقد قدم الماتركس سنة 1999 ليساهم في جعلها سنة فارقة في تاريخ السينما. يكفي إلقاء نظرة على ترشيحات جوائز الأوسكار لسنة 2000 لإدراك ذلك. و يمكن بمنتهى البساطة اعتباره أحد أعظم الأعمال المقدّمة في السينما على الإطلاق. فهل كانت لواحقه (Sequels) بمثل جودته؟



Friday, August 28, 2015

حرّر عقلك 4

في الأجزاء السابقة من هذا المقال الطويل، تحدثت عن وجوه الطرافة في فيلم الماتركس على مستوى الفكرة العامة و القصة و التصوير. و خلصت إلى أن الفيلم لا يستمدّ تميّزه من طرافة مادّته، و إنّما من خلال العبقرية التي أتاحت تجميع الأفكار المتناثرة هنا و هناك لتشكّل روايةً متماسكةً متينةً، انعكست على العمل السينماتوغرافيّ المبهر الذي اعتمد أيضا على كليشيهات سينمائية لم يبحث عن إخفائها بقدر ما بحث عن الاحتفاء بها و بلورتها و إخراجها في قالب شديد الإتقان. لكن، ماذا عن المضمون؟ ماذا يمكننا أن نرى في هذا الفيلم؟ و هل اعتمد المخرجان على نفس القالب Pattern في صنع المعاني؟

مع ظهور Neo بطل الفيلم، يظهر لنا أول مرجع أدبي مثير للاهتمام. يستيقظ الفتى ليجد رسالة على الكمبيوتر تدعوه لتتبّع الأرنب الأبيض. بعدها، وجد الفتى الأرنب موشما على كتف زبونته التي تدعوه إلى حفلة صاخبة، و كانت تلك بداية رحلة Neo العجيبة. كان الأرنب الأبيض إشارة واضحة لقصة آليس في بلاد العجائب. فرواية لويس كارول تعتبر رمزا للسفر بين عالم الواقع و عالم الخيال، و في هذا تتماهى آليس مع Neo، لكنّ التشبيه يخبرنا بأمر آخر : عبر رحلة آليس، نتبيّن كيف أن عالم الخيال على غرابته لا يختلف كثيرا عن عالم الواقع، بل هو يخبر عنه بشكل أو بآخر، هذه الفكرة هي أساس الفيلم، فالخوارق التي يأتيها الأبطال في الماتركس، لم تنجح في إخفاء الحقيقة التي نعرفها منذ البداية : هذا العالم الوهمي، هو عالمنا، هو العالم الذي نعرفه قبل الفيلم، هو عالم الأجهزة و الدول و المنظمات، و حياة الدعة و اللذائذ، هو عالم العمارات الشاهقة و الوظائف الشائقة و النظام الصارم و البوليس الذي يعرف عنك كلّ شيء. الماتركس هو ذلك العالم العجائبيّ و الواقعيّ في آن!

و بنفس الطريقة الساخرة، يستعمل Cypher قبيل عمليّة تحرير Neo من الماتركس مرجعا أدبيا شهيرا آخر إذ يقول : اِربط أحزمتك يا دوروثي، فكانزاس ستختفي عن الأنظار. و هي إحالة على رواية باوم و ترجمتها السينمائية الشهيرة "ساحر أوز" The wizard of Oz. لكن، من هو Oz الذي يبحث عنه Neo ؟ من هو الساحر الذي يحمل آمال دوروثي و الأسد و الروبوت و الفزّاعة؟ ربّما كان Neo نفسه!

و رغم أن السياق الذي ذكرت فيه دوروثي عفويّ جدا إلا أنّه لا يمكن أن يفوتنا إصرار الأخوين على تذكيرنا المستمرّ بمحاولات من سبقهم في ذلك. لا ننسى أن اختيار إسم الماتركس له علاقة وطيدة برواية النورومانسر لويليام غبسون، رائدة أدب "السايبر بانك". ثمّ خلال تسليم Neo لبعض الأغراض المقرصنة لحرفائه، نكتشف أنه يخفيها في كتاب لجون بودغياغ : Simulacra & Simulation، و هي إشارة من المخرجيْن للكتاب المرجعيّ لفيلم ماتركس، حيث طلب الأخوان من الممثلين الرئيسيين قراءة الكتاب قبل بداية العمل. و عندما نتأمّل في الرقم المكتوب على باب شقة Neo (رقم 101) سيتبادر إلى أذهاننا رقم غرفة التعذيب الرهيبة في رواية جورج أورويل الأشهر : 1984 ما يحيلنا على الكليانية الغاشمة التي يريد الأخوان إثباتها على عالمنا. يمكن أن نفهم من هذا الإصرار على التذكير بالأدبيات السابقة، تأكيدا منهما على أن العمل يتنزّل في السياق نفسه : الرحلة بين العالمين، التحذير من هذا العالم الذي بات لا يُحتمل، الدعوة إلى التمرّد على المنظومة الطاغية، و الكشف عن خيال هو سلاح الإنسان في مواجهة واقعه.

كلّ هذه الإحالات الأدبية واضحة و تمت الإشارة إليها صراحة مثلما ذكرت، أما المرجع الأكثر قربا من سيناريو الفيلم، و الأكثر قدما، فهو تلك الفكرة التي لم يتمّ الإعلان عنها صراحة، لكنّها تعلن عن نفسها من دون الحاجة إلى وسائط : أجل نحن نتحدث عن أمثولة أهل الكهف لأفلاطون.
تتحدث الأمثولة عن أناس مسجونين في كهف طيلة حياتهم، قبالة جدار أبيض، يرون ظلالا ضخمة و رهيبة على الجدار تعكسها نيران من خارج الكهف، و لأنّ النار و الناس الذين تنعكس ظلالهم، يوجدون جميعا من خلفهم، فمن الطبيعي أن هؤلاء المساجين راحوا يتخيلون أشياء غريبة و عجيبة بشأن الظلال. فقط الفيلسوف منهم من استطاع أن يكسر الأغلال، و يذهب ليستطلع حقيقة الظلال و أشكالها الحقيقية، ليعود و يرويها لرفاقه، أي يحرّرهم بدورهم.
من يعرف أمثولة الكهف، يمكن له بسهولة أن يجدها في تفاصيل الماتركس. كلنا سجناء الكهف، لا يتحرّر منّا إلا أولئك الأبطال الحقيقيون، يغامرون من أجل اكتشاف الحقيقة مهما كانت مرارتها، يقتلعون حريتهم، ثمّ يعودون بالحقيقة إلى الكهف/الماتركس مرة أخرى من أجل تحرير الآخرين. ربما لذلك اقترن العالم الواقع بالمعرفة، بقدر ما اقترن عالم الماتركس بالخيال. المعرفة كانت سبيل نيو للتحرّر. ("لا تعتقد أنك أسرع، إعرف أنك الأسرع"). و المعرفة كانت سبيله للتحرير. ("إعرف نفسك" باللاتينية معلقةً على باب مطبخ العرّافة Oracle ).

هذا الجانب من الماتركس، هو الأكثر وضوحا و أهمية. الماتركس دعوة إلى الانعتاق. دعوة إلى كسر حواجز النظام الذي يحيط بنا من كلّ جانب، لأنّ الحقيقة تكمن هناك، خلف كل هذا الوهم. التمرّد تيمة محبّذة عند الأخوين فاشوفسكي. اِستعاداها بشكل أكثر صراحة و مباشرتية في V for Vendetta. إن المنظومة العالمية عندهما هي العدوّ الأول الذي يجب أن يُحارب. يمثل المنظومة، أفراد جهاز البوليس الذين يُعتبرون ضحية للمنظومة بدورهم. و العملاء السرّيّون الذين يتميّزون بصلاحيات أرفع، و بمادة معرفية أكبر، هؤلاء هم العميل Smith و بقية زبانيته، و هؤلاء هم الكلاب الذين يمثلون أشرس ما في النظام. يجب الإشارة إلى مسألة عبقرية هنا، هي تعدّد أسماء Neo، فهو يحمل هذا الإسم فقط في حياته الليلية حينما يخرج عن النظام، و يتحوّل إلى قرصان حرّ باحث عن الحقيقة، أما عندما يعود نهارا عبدا للمنظومة، فهو Mr Anderson، و كذلك كان يسمّيه العميل سميث. لكن كان هناك شخص آخر في الفيلم يناديه بذات الإسم : لقد كان رئيسه في العمل. شركة ميتاكورتكس للبرمجيات، شركة مرموقة تذكرنا بشركة مماثلة كانت تحظى بنجاح مرعب في تلك الفترة (1999) إثر إصدار نظام تشغيلها الجديد، و تمّ اتهامها بالاحتكار فيما كان رئيسها ينعم بتتويجه الأغنى في العالم... أنا لا أجزم بشيء هنا سوى التالي : العنصر الثاني المهمّ الذي يحمي المنظومة، هم رجال الأعمال كبارهم و صغارهم، إنّهم من يستعبدونك، و يبنون بعرقك قلاعا من القوانين و الثروات تحميهم من أبنائك الذين سيولدون غدا أشقياء! فمن تراهم العنصر الثالث؟ عودة سريعة إلى مشهد Neo الأول قد تجيبنا عن السؤال : كان الفتى غارقا في نومه بينما تتواتر على شاشة الكمبيوتر أغلفة الجرائد العالمية، نميز بينها جريدة النهار اللبنانية، و أحداثا هنا و هناك، فجأة ينقطع كلّ ذلك ليترك المجال لترينيتي لتتكلم و ليستيقظ الفتى. كانت ترينيتي هي صوت الحقيقة الذي يجب أن يسمع، بينما كان كلام الصحافة، هو الهراء الذي يجب أن لا يُسمع!
لكنّ مورفيوس يستطرد فيقول: حينما تكون داخل الماتركس ماذا ترى؟ رجال أعمال؟ معلمين؟ محامين؟ نجارين؟ عقول كلّ الناس الذين نحاول إنقاذهم. و لكن مالم ننقذهم، فهم لايزالون جزءا من المنظومة، و هو ما يجعل منهم أعداءنا. يجب أن تفهم أن أغلب الناس ليسوا جاهزين للانعتاق. و أغلبهم خاملون و متعلقون بالمنظومة إلى درجة من البؤس تجعلهم يقاتلون ليدافعوا عنها. 
و هو مقطع كفيل بشرح موقف المخرجين من العالم تماما!

يمكن أن نفسر بساطة الخطّ السرديّ في الفيلم، بكثافة المادّة المقدّمة. و مع كلّ الإحالات الأدبية التي تحدّثت عنها، و الإحالات السينمائية التي ذكرتها في الجزء السابق، نجد في الفيلم حضورا لافتا للجانب الدينيّ. و هي مسألة مهمّة جدا، و ربما مثيرة للحيرة كما سأبيّن.
يوجد في الفيلم معجمان دينيّان حاضران بشدّة، إضافة إلى الميثولوجيا اليونانية. فأما عن الميثولوجيا، فنجدها خصوصا في الأسماء (مورفيوس إله الأحلام، الأوراكل العرّافة) و حضور الميثولوجيا برأيي زخرفيّ لا يمكن أن يفيدنا بأفكار إضافية (ربما في الجزء الثاني، حينما ظهرت برسفونة...). و أما عن المعجمين الدينيّين، فأوّلهما المعجم البوذيّ، حيث نجد حضور الطفل البوذي الذي يتدرّب (و يدرّب) على نكران المادّة، و على إعلاء الإدراك الذاتيّ (لا تحاول أن تثنيَ الملعقة فهذا مستحيل، لكن حاول أن تدرك الحقيقة : لا توجد ملعقة!). كما يحثّ مورفيوس تلميذَه على نبذ حواسّه و الموجودات من حوله، و التأمّل في ذاته. "حرّر عقلك"، هي العبارة التي سترسخ في الأذهان بعد جولة Neo التدريبية، فلا شيء من حولنا حقيقيّ، كلّ شيء زائف، و الحقيقة الوحيدة هي ذواتنا، هي تفكيرنا... هل أتحدث عن فلسفة بوذية أم ديكارتية؟

هل يمكن من خلال هذا المنظور، أن نقول إن في الماتركس دعوة خفيّة لنبذ الحسيّ و الاحتفاء بالروحانيات؟ هل يمكن أن يكون الماتركس صوفيَّ النزعة؟ السؤال محيّر حقا، خصوصا و أن الأخوين قدّما الإجابة في مشهدين مهمّين في الفيلم : في المشهد الأول، نرى Cypher و هو يتلذّذ بشريحة لحم ربما لن تجد أجمل منها و أشهى في تاريخ السينما الأمريكية. يتساءل Cypher في إنكار عن قيمة معرفة الحقيقة حينما تحرمه من لذّة التمتّع بهذه الشريحة. هو يعرف أنها وهمية زائفة، لكن ماذا عن الإحساس الذي تحدثه في ذهنه؟ كيف يمكن أن لا يكون حقيقيا؟
في المشهد الموالي مباشرة، نجد فريق مورفيوس مجتمعا للعشاء في المركبة، يقدّم الطعام إلى Neo، نراه مقزّزا، مع نصائح للفتى بسدّ منخريه و التهامه بسرعة. لو أخذنا بالفكرة السابقة، فالمسألة منطقية، و يفترض من المشاهد ( و Neo ربما) أن يقول إن كل هذا ليس حقيقيا، ما يهمّ من الطعام هو منفعته التي تسري في الجسم مثلما ذكّر بذلك Dozer. لكنّ تدخّل الفتى Mouse يسقط هذا الافتراض إذ يقول :"أن ننكر شهواتنا الكامنة، هو ننكر أهم ما يجعلنا بشرا"، و يتركنا بذلك في حيرة من زاوية النظر الحقيقية التي يدفع إليها المخرجان. ربما في النهاية هما حائران مثلنا!

لكن بخصوص المعجم الدينيّ التالي، يبدو المخرجان أقل حيرة و أكثر اندفاعا. لأننا لا نجد هذا المعجم في تفاصيل الفيلم فحسب، بل في هيكله كأنّه قدّ عليه. فمنذ بداية الفيلم، يوصف Neo بالمخلّص من قبل الحريف الذي جاءه إلى شقته. ثمّ تتراكم التشبيهات لنكتشف أن لـNeo هوية ثالثة بخلاف المبرمج المستعبد، و القرصان الحرّ. فهو أيضا الواحد المحرّر The One الذي تحدثت عنه النبؤات، و الذي يبحث عنه مورفيوس. هنا ندرك أن One هي تشكيل مغاير للفظة Neo. ثم يخيّل إلينا أنّ هذا هو السّبب وراء تسمية Trinity : إن المعجم المسيحيّ يسيطر على الفيلم تماما!
لا أتحدث عن مجرّد تسميات هنا. أنا أتحدث عن تطابق شديد، يجعل من Neo صورة للمسيح : فبداية هو من تكهنت به العرافة، و هو من انتظر قدومه المؤمنون به (مورفيوس) لينهيَ الحرب، و يخلّص الناس و يحرّرهم من العبودية و يحرّر مدينتهم الوحيدة الباقية : القدس (Zion). و لأن ذلك لا يكفي، فالفيلم يظهر مورفيوس على أنه عرّاب المسيح، و أصحابه هم الحواريّون، حيث أن العشاء الذي تحدثت عنه بدا كأنّه العشاء الأخير، قبل الخيانة، فحضر الجميع إلا Cypher الخائن (لم يكن المخرجان قادرين على استحضار مورفيوس من البداية لأسباب تتعلق بالسيناريو).
و لأن المسيح يأتي بالمعجزات، فمعجزات Neo لم تنته منذ أعلن أنه فعلا المخلّص : واجه العميل سميث الذي لا يُقهر و قهره، حرّر مورفيوس من براثن العملاء، و الأهمّ من كل ذلك أن عاد من الموت، بقدرات إلهية. في الأجزاء التالية تتبلور معجزاته أكثر، و يتهاتف عليه الناس طلبا لبركاته، لكنّ هذا لا يعنينا بقدر ما يعنينا تأويل ذلك. فالأخوان يبديان من خلال Neo لا مجرّد استحضار لميثولوجيا مسيحية ثرية و ممتعة و مسليّة، بل حماسا واضحا لفكرة المخلّص. كأنّهما يقولان : نحن بحاجة إلى المخلّص أمام كل هؤلاء الطغاة! نحن بحاجة إلى عودة المسيح، أو بحاجة إلى النبيّ الجديد. لقد كان Neo ضائعا (يشي بذلك فصل "العدميّة" في كتاب بودغياغ الذي كان يخفي فيه ما سوف يبيعه)، ثم أصبح في النهاية محرّرا. هذا يقودنا إلى تفصيل مهمّ أثار ضجّة صغيرة حينما عرض الماتركس لأول مرة : Zion.
زايون، أو صهيون، هي المدينة التي أنشأها البشر المتحرّرون من سطوة الماتركس في عالم الواقع. إنها مدينة المقاومة، و هي المدينة التي تحاول الآلات الذكية إيجاد مفاتيحها لاقتحامها و تدميرها. و الإسم طبعا مأخوذ من ذات المعجم المسيحيّ الإنجيليّ، حيث إن Zion هي مدينة القدس في الكتاب المقدّس، و التي تحمل أسماء عديدة أخرى. و السؤال الذي يتبادر إلى الذهن طبعا، هو الغاية من اختيار هذا الإسم. لأن المخرجين أثبتا أنهما لا يتركان الكثير للصدف، و أنهما شغوفان بالمعاني الخفية، و الرموز. ما الذي يفترض أن يعنيه وجود القدس هنا؟ بإسم Zion المقترن في عصرنا بحركة عنصرية هي الأشرس و الأكثر دموية؟ هل تراها فكرة الأخوين فيشُفسكي عن الحرية؟ أم تراها حماسا مفرطا تجاه الأدبيات الإنجيلية لا غير؟


لا تنتهي الرموز و المرجعيات عند هذا الحدّ، و يبدو أن المشاهدات المتكرّرة لا تكفي للإحاطة بما أورده المخرجان عمدا أو عفوا في الفيلم، إذ أنّ اختلاف الاختصاص و المعارف يمكن أن يؤدّي بالمشاهد إلى رؤية الفيلم بشكل مخالف. ففضلا عن عالم السايبر و المعلوماتية، و العوالم الدينية و الفلسفية و الأدبية التي أشرنا إليها سابقا، توجد عوالم أخرى مختبئة. تحدث بعضهم عن علم التشريح، و عن البيولوجيا، و عن فزياء الكمّ!
و فضلا عن ذلك، فهو مليء بالأفكار و التساؤلات و القضايا المختلفة التي يمكن أن نراها في كلّ مشهد تقريبا. لكن، من المفيد التوقف عند أهمّها. لقد أشرت من خلال المقاربة مع المسيحيّة، إلى فكرة الرجل المخلّص التي قد يتبناها المخرجان. كما أشرت إلى فكرة الخيال كسلاح في مواجهة الواقع انطلاقا من الأدبيات التي تبنّياها. و لم أنس الحديث عن مسألة الكوجيتو و ما قدّمته للماتركس من تساؤل بخصوص الوهم الحسيّ. 

تطرح شخصية العرّافة Oracle تساؤلات جديرة بالاهتمام عن تسيير الإنسان و تخييره. سوف يتبلور التساؤل أكثر في الجزء الثاني، خصوصا مع ظهور شخصية المعماريّ The architect، لكن قبل ذلك يمكن لنا أن نتساءل بخصوص ما قالته العرّافة: لماذا تعتقد أنها لا تستطيع أن تمنع تهشم المزهرية و هي تعلم بتهشّمها مسبقا؟ لماذا الإصرار على خيار "خاطئ"؟ ألا يذكرنا هذا التساؤل بتلك التساؤلات الدينية الشهيرة بخصوص تخيير الله للإنسان؟ إذا كانت خيارات الإنسان معروفة مسبقا، فما معنى أن يختار؟ لقد خُيّر Neo بين أن ينقذ نفسه و بين إنقاذ مورفيوس، و لقد اختار الإيثار، أفلم تكن العرافة على علم بذلك؟ لماذا تترك له الخيار؟ ربما لأنّ فكرة الخيار هي ما يصنع الخيار نفسه. و ربما لأنه معدوم حقا. Neo في النهاية لم يختر أن يكون المخلّص، لقد أخذته الأحداث إلى نفسه!

أما Cypher فأعتقد أن شخصيته تحتاج إلى مقالة منفردة. لكن أجمل ما قدّم في شخصية Cypher هي أن منطقه لا يجعله جبانا خائفا من مواجهة الحقيقة بقدر ما هو صاحب حكمة مختلفة. إنه أيضا صاحب موقف، و خيار. لقد مارس خياره حتى نهايته، و لقد مات في سبيل ذلك. من الخطإ إذا تشبيه Cypher بأولئك الحمقى الذين يملأون الفضاء من حولنا، كلّ همّهم أن يشبعوا لذاتهم دون أن يعرفوا لذلك سببا. إن Cypher عرف الألم، و اكتشف الحقيقة قبل أن يقرّر. إنه يعلّمنا كيف أن الوهم يمكن أن تكون غاية بحدّ ذاتها.


و تبقى شخصية العميل سميث، هي الأكثر جاذبية من بين شخصيات هذا الفيلم، و أبقاها. لم يكن إسمه أيضا عبثيا. فهو مثل إسميْ زميليه Jones و Brown، عامّ لا يعني سوى أنه "امرؤ ما". عمد المخرجان إلى هذه الأسماء، للدلالة على أن العدوّ هو الآخر قطعا. هو كلّ من لم يصبح حرّا. لكنّ العميل Smith يمتلك ميزات خاصة سنكتشفها في الأجزاء التالية. ما يهمّنا في هذا الجزء، هو الملاحظة التي أبداها بخصوص الجنس البشريّ. يقول العميل الشرس و هو يستنطق مورفيوس :"أحب أن أعترف لك بأمر مهم توصّلت إليه خلال فترة مكوثي هنا، كنت أحاول ايجاد تصنيف ما لجنسكم. و قد انتهيت إلى استحالة أن تكونوا من الثديات. إن كل أنواع الثديات على كوكب الأرض، تساهم بشكل غريزيّ في احداث توازن مع البيئة المحيطة بها، و هو ما لا تفعلونه أيها البشر.
تنتقلون من مكان إلى آخر بلا هوادة، و تتكاثرون بلا توقف، حتى تٌستهلك كل موارد الطبيعة عن آخرها. طريقتكم الوحيدة في الاستمرار، هي الانتقال إلى مكان آخر، و التكاثر مرة أخرى.. و الواضح أنه لا يوجد كائن عضوي آخر يمارس هذا الأمر على الأرض، إلا كائن عضويّ وحيد. هل تعرف ما هو هذا الكائن؟ إنه الفيروس. الفيروس. إن البشر وباء، سرطان هذه الأرض." و رغم أنّ الفيروس ليس كائنا عضويا، إلا أن كلماته أتت بأكلها. إن المخرجين هنا يلعنان الجنس البشريّ، يعتبرانه في عبوديته لهذه المنظومة، لم يضرّ نفسه فحسب، بل أضرّ بما حوله. إن التحرّر هنا لم يعد ترفا، بل واجبا. إن الإنسان مجبل على الانعتاق من هذه المنظومة، رأفة بمحيطه البائس.


يبدو لي من المحال على فيلم واحد أن يحمل كلّ هذه المعاني و المباني دون أن يبدوَ على مشاهده الثقل و الازدحام، إلا أنّ الماتركس استطاع تحقيق المعادلة المستحيلة. فخرج إلينا مسليا، أنيقا، مليئا بالتساؤلات الفلسفية و المشاهد القتالية في آن. لكن هل إن الماتركس خالٍ من العيوب و النقائص؟ هذا ما سنراه في المقالة القادمة.

سايفر :"الجهل نعمة"

Thursday, August 27, 2015

حرر عقلك 3

قصة الماتركس ليست نمطية فحسب، بل لا تتميّز بطرافة مطلقة، كلُّ الأفكار تقريبا يمكن العثور عليها بشكل أو بآخر في أعمال سابقة، يجب التنويه خصوصا بفيلم Dark City، و بإحدى حلقات Dr Who المسلسل البريطاني الشهير حيث ذكر الماتركس كعالم افتراضي يمكن الولوج إليه. كما أن من شاهد فيلم Total Recall سيجد تشابها ملفتا بين الفكرتين رغم اختلاف الفيلمين الجوهري. و لا ننسى كذلك عالم الأنيمي الياباني، و أخصّ بالذكر فيلم Ghost in the Shell الذي ظهر سنة 1995 حينما بدأت فكرة الماتركس تتبلور و فيلم Akira الشهير الذي ظهر في نهاية الثمانينات.

ما الذي يُفترض استنتاجه من أمر كهذا؟ أن الماتريس ليس طريفا، و ابتكاره لم يكن عبقريا إلى هذا الحدّ؟ مطلقا. فكلُّ الأعمال الفنية تنطلق من تراكمات تراثية، و من أفكار سابقة، و الطرافة ليست في إتيان ما لم يأت به أحد، و إنما في بلورة ما سبق و تشكيل ما لم يشكّله أحد. لقد أخذ الماتركس عن Dark City فكرة السيطرة على البشر و إغراقهم في عالم وهمي، لكنّه بلورها و وضعها وسط منظومة معقدة تفترض أن العالم الوهمي برنامج كمبيوتر، و أصبح "الغرباء" "آلاتٍ ذكية". 
ثم إنّ عالم الماتركس (الفيلم) يمكن تمييزه بسهولة، و له خصائصه التي ينفرد بها عن بقية العوالم الفانتازية التي أنتجها المخيالُ البشريّ، و يعود ذلك خصوصا إلى العمل السينماتوغرافي المبهر هنا.

فحين نقول ماتريكس، يغلب على مخيلتنا اللونان الأخضر و الأسود، و هما اللونان المميزان للصورة في هذا الفيلم. حيث عمد المخرجان إلى زيادة الصبغة الخضراء في المشاهدة التي تصوّر عالم الماتركس. كما أن عدم وجود الشمس في العالم الحقيقي، يزيد من المساحة السوداء في المشاهد، و هي مساحة مزدانة بالفعل بأزياء الشخصيات الرئيسية.

يستمدّ الماتركس أيضا طرافته من خلال تركيبة الشخصيات الفريدة، التي رغم استلهامها من رموز ميثولوجية و دينية و ربما أدبية، إلا أنها تحافظ على فرادتها و طرافتها، و يمكن أن تعلق بذهن المشاهد بسهولة. العميل سميث مثلا يمكن اعتباره من بين أهمّ الأوغاد في تاريخ السينما!

لكنّ أهمّ ما بقي في ذاكرة المشاهدين بخصوص الماتركس، هو حتما طرق التصوير الثورية. لقد تميّز عن ما سبقه من أفلام السايبر بنك Cyberpunk و التي تناولت قصصا مشابهة، بالمؤثرات البصرية المتقنة إلى حدّ مذهل. يذكر موقع IMDB حقيقةً تفسر الكثير بخصوص هذا الأمر : فحين طلب الأخوان فيشوفسكي من وارنر بروذرز ثمانين مليون دولار لإنتاج الفيلم، حصلا فقط على 10 مليون لذلك. خصوصا و هما مغموران حينئذ و لا يمكن المقامرة بمبلغ مرعب دون ضمانات. فما كان من الأخوين إلا أن استعملا المبلغ كله لتصوير المشهد الأول فحسب، مخاطرين بإمكانية سجنهما، لكنّ العمل المذهل أقنع المستثمرين بدفع بقية المبلغ!

الحقيقة أن مشهد تريتيني و هي تركل رجال البوليس هنا و هناك، و تقفز فوق أسطح العمارات بوجه بارد صارم و لباس أسود جذاب، يمكن أن يفتن أي مستثمر. ثم هناك تلك اللقطة التاريخية في بداية المشهد، حينما تتسمر ترينيتي في الفضاء مقرفصة بينما تتجول الكامرا من حولها قبل أن تواصل الفتاة الفاتنة رحلة الركل و الركض. أعاد الاخوان ذات التقنية في مشهد مراوغة نيو بالرصاص فيما عرف لاحقا بتقنية الماتركس. و رغم أنها تقنية قديمة و سابقة للفيلم، إلا أنها المرة الأولى التي تجرب في فيلم حركة طويل، و خصوصا هي المرة الأولى التي تنجز بهذا الإتقان. لقد جعل ذلك الكثيرين يتحدثون عن سينما ما قبل الماتركس و ما بعدها، ما شفع لجون غايتا و فريقه للحصول على أوسكار المؤثرات البصرية في سنة تاريخية للسينما الأمريكية (قائمة أوسكارات سنة 2000).

لقد كان للعمل التقنيّ المذهل في هذا الفيلم تأثير شديد على نجاح تركيبته القصصية. و رغم أن الفكرة في عمومها ليست محدثة، إلا أن العمل المتقن على تفاصيلها كان رائعا. بذات المنطق أيضا، كانت التفاصيل السينماتوغرافية مثيرة في هذا الفيلم، حيث لا يخفي المخرجان مراجعهما السينمائية و لا يتحرجان منها، بل كأنهما يذكّران بها كلّما سنحت الفرصة : في مشهد القتال الأخير، يقف الرجلان متقابلين و بيد كلّ منهما مسدّس، الصمت مطبق إلا من ريح لا يفترض أن توجد في مكان مغلق كمحطة ميترو أسفل الأرض، أوراق تمارس لعبتها اللولبية منذرة ببداية الصراع... ألا تذكركم بشيء؟
أما عن مشاهد النزال، فلم يكتفيا باسترجاع عوالم سينما الشاولين، بل استقدما أحد أشهر مصمّمي المعارك السينمائية لإعادة بعض أعماله الشهيرة إعادة مطابقة!

و في وسط هذه المشاهد و الأفكار المرسكلة بطريقة عبقرية، نجح المخرجان في ابتكار مشاهد أصبحت أيقونية، تكرّرها الأفلامُ اللاحقة بدورها، كمشهد الافتتاح، و لكن خصوصا مشهد تفادي الرصاص الذي عرف بإسم Bullet Time، لقد صار علامة مسجلة حوّلت الماتركس إلى عمل كلاسيكي لا يعقل على محب السينما تفويته.

هذا ليس كلّ شيء، في الجزء القادم، نحاول أن ننظر إلى ما وراء الشكل، ماذا يوجد وراء القصة الممتعة، و المؤثرات البصرية الخارقة؟ ماذا يوجد خلف استحضار عوالم سينمائية متعددة؟ و ماذا تخفي شخصيات الماتركس من رمزية؟

حرر عقلك 2

ما دمت تقرأ هذه الكلمات، فلقد اخترت المواصلة مع الصداع الجميل. تقول الأسطورة أن قصة فيلم الماتركس من أكثر القصص تعقيدا في عالم السينما، لكن أعتقد أنني أحمل رأيا مخالفا بعض الشيء. من المؤكد أن القصة تحمل درجة لا بأس من التعقيد تجعل الإلمام بكل تفاصيلها من مشاهدة واحدة أمرا أقرب للمستحيل. لكن لو عدنا إلى قائمة الأفلام المعروفة بتعقيد قصتها (Memento أو Primer مثالا) فسيبدو الماتركس أشبه بمنتَج وديع مرفوق بدليل استخدام. الماتركس لا يعتمد على أية تعقيدات بنيوية مثلا، و القصة تأخذ شكلا خطيا بسيطا، بل إنها و فوق ذلك، تحترم الشكل الأكثر نمطية للسرد القصصي. يضاف إلى ذلك مراوحة واضحة بين المشاهد التي تتقدم بالقصة، و المشاهد التي تشرحها، ما يجعل التركيز على الحوارات الدقيقة و القصيرة المتناثرة و فهمها، أمرا ممكنا جدا منذ المشاهدة الأولى. هذا لا يعني أن المرء بإمكانه الإحاطة بكل جوانب الفيلم و كل تفاصيل القصة منذ المشاهدة الأولى، لكن تكفي المشاهدة الأولى للخروج بفكرة الفيلم و قصة واضحة في الأذهان :

1 ـ القصة (لمن لا يريد توضيحا بشأن القصة يمكنه تجاوز الكتابة الزرقاء)
الشاب توماس أندرسن مبرمج لامع. يعمل في شركة ميتاكورتاكس للبرمجيات نهارا، و ليلا يتحوّل إلى الهاكر الشهير نيو الذي دوّخ الحكومة و أجهزة الدولة. تتصل به الهاكر الأسطورية المعروفة بإسم Trinity لتعرض عليه الإجابة عن السؤال الذي يشغل باله : ماهو الماتركس؟ يجعله هذا الاتصال عرضة لمطاردة عملاء الدولة الذين يبدون أكثر رعبا بكثير مما يفترض أن يكونوه : يزرعون في بطنه كائنا كابوسيا، يمنعونه من الصراخ بفسخ فمه، هل هذا كابوس؟ حينما نهض نيو من نومه، دعاه اتصال Trinity إلى رحلته التي لن يعود منها كما كان : لم يكن ذاك كابوسا! هذا العالم الذي نعيشه فيه يحتمل أشياء لا يقبلها العقل (حقا؟). يقابل بطلُنا الرجلَ الأسطوري مورفيوس، و يجد نفسه مخيّرا إما أن يعود إلى عالمه و إلى حياته العادية، و إما أن يعرف الحقيقة. هل تريد الحقيقة؟ إليك بها إذا! هكذا يتحرّر الفتى من الماتركس. و بعد أن كان جالسا في كرسيّ يجاهد لكي لا يبتلع السائل الغريب الذي يغمره، يجد نفسه كالجنين في مهد ممتلئ بالسوائل، في عالم كابوسيّ كأنه الجحيم، و مشدود من كل مفاصل جسده بألياف ملتحمة بجسمه، قبل أن نفهم ماذا يحدث، تنحلّ الألياف، و يسقط نيو من بالوعة المهد إلى ما يشبه بركة للصرف الصحي. تأتي مركبة طائرة و تلتقطه.

بعد فترة النقاهة، يشرح مورفيوس لنيو ماذا يحدث له : إن العالم الذي كان فيه، ذلك العالم الذي نعرفه، ذلك العالم الذي يعمل فيه نيو مبرمجا و قرصانا، هو عالم وهميّ، برنامج كمبيوتر معقد جدا يتصل به الناس فيحسّون و يتفاعلون بالضبط كما في الأحلام، هذا العالم هو عالمنا الذي نعرفه، و هو المسمى بالماتركس و يشير التاريخ فيه إلى العام 1999. أما العالم الحقيقيّ، فالتاريخ فيه 2199، حيث طوّرت الآلات الذكية وعيها، و صارت تتحكم بمصيرها، و لأنها بحاجة إلى الطاقة، فلقد قررت استعباد الإنسان و استعماله كبطارية : أوصلت الآلاتُ الناسَ بالماتركس ليعيشوا حياةً تقبلها أذهانهم و تفرز من خلال تفاعلاتهم، تلك الطاقةَ التي تحتاجها الآلات. بعض هؤلاء الناس استطاعوا التحرر من البرنامج، و استطاعوا الهرب من سطوة الآلات و بناء مدينة Zion أو القدس التي هدفها إنقاذ النوع البشري و تحريره، بالعودة إلى الماتركس و تنبيه الناس و تحرير الجاهزين منهم لتقبل الحقيقة المفزعة. و كذلك ما حدث لنيو.

اِبتداء من هذه اللحظة، يصبح كل شيء منطقيا : الخوارق التي حدثت في الفيلم ليست أمرا عجائبيا حقا، إنها نتاج قدرات عقلية تسمح بالتنصل من سطوة الفيزياء الطبيعية و خرقها، لأن لا شيء من هذا يحدث فعلا، لا شيء من هذا حقيقيّ. هكذا يتمرّن نيو على توسيع قدراته العقلية بتلقين خاص من مورفيوس و من التعاليم البوذية التي تدعو إلى تحرير العقل و الاقتناع بزيف المادة.


فيما بعد يصبح الفيلم واضحا جدا كأي فيلم بسيط آخر : مورفيوس يؤمن أن نيو هو الرجل المنتظر. يذهب به إلى الOracle أو العرافة للتأكد من ذلك. تخبره أنه ليس كذلك. أثناء العودة، يقترف سايفر Cypher (أحد أعضاء فريق مورفيوس) خيانته من أجل أن يعود شخصا عاديا في منظومة الماتركس، جاهلا بالحقيقة لأن الحقيقة مثيرة للبؤس. تثمر الخيانة القبض على مورفيوس. العميل سميث الذي لم يكن في الواقع سوى برنامج كمبيوتر مقحم في الماتركس من أجل القبض على المارقين، يحاول عبثا انتزاع مفتاح النفاذ إلى Zion من رأس مورفيوس العنيد، حينما يأتي نيو و ترينيتي لإنقاذه. طبعا يحدث كل هذا في عالم الماتركس. خلال هذه المغامرة، يتعرف نيو أخيرا على قدراته، ينقذ مورفيوس و ترينيتي اللذين يخرجان من الماتركس، تاركين نيو يواجه مصيره : العميل سميث. تلك هي اللحظة التي كشفت القناع عن حقيقة الفتى : إنه بالفعل الرجل المنتظر. إنه حقا ما آمن به مورفيوس!

من المهمّ القول هنا، أن القصة كانت حصيلة أكثر من خمس سنوات من العمل، ما جعلها متماسكة إلى حدّ بعيد. و لكنها أيضا في خطّها القصصي كلاسيكيةٌ جدا، بل نمطية نرى عبرها بكل وضوح منوال رحلة البطل بكل عناصره، العنصر الخارجي الذي يدعوه إلى الرحلة، بداية الرحلة، التعرف على الحقيقة، التكيف مع الحقيقة (التعلم)، الأزمة، التحوّل، التعامل مع الأزمة. رحلة نيو قالب قصصي يتكرر كثيرا و حتى الشخصيات المتناثرة من حوله، شخصيات نمطية جدا : العميل سميث هو الشخصية المعرقلة، سايفر هو الخائن الذي يساعد الشخصية المعرقلة، مورفيوس هو الملقن و العرّاب و هو الشخصية المساعدة، العرّافة هي ذلك الشيخ الحكيم الذي لا يتفوّه إلا بالكلمات المفاتيح، أما ترينيتي فهي الجانب الرومانسي في القصة. و لئن حافظت أغلب الشخصيات على نمطيتها، فإن شخصية ترينيتي هي الأكثر تمرّدا على المنوال المذكور : يبدأ العمل بها مبهرا، مثيرا، غامضا، ترينيتي كممثل للجانب الرومانسيّ الذي سيرجح كفّة نيو، و يوقظ فيه النبيّ الكامن، لم تبدُ كذلك أبدا طوال الفيلم : كانت تلك المرأة الجميلة المرعبة، الsuper woman التي يجب تجنّب غضبها! و يعود نجاح الشخصية إلى أداء Carrie Anne Moss الراقي و إلى افتتاحية الفيلم الرائعة، و هو ما سنعود إليه في بحثنا في سينمائية الماتركس.


حرر عقلك 1

اِنهض! هل تريد أن تعرف الحقيقة؟ اِتبع الأرنب الأبيض. لقد حانت لحظة الاختيار. هل تريد الحقيقة أم السعادة؟ مرحبا بك في صحراء الواقع! أنت الآن بعيد عن كِنْزَسْ يا دوروثي! هل تعتقد أنّك تتنفّس هواءً؟ حرّر عقلك! اِعرف نفسك. أنت المنتظر! أنت الموعود و المخلّص. أنت لست هنا لتقرّر، فلقد قرّرت بالفعل، أنت هنا لكي تفهم قراراتك. أنت فيروس هذا العالم، و أنا الدواء!

لكنّ العميل سميث كان مخطئا، فالفيروس ليس كائنا عضويا (organism)، و هو خطأ على قيمته، لا ينتقص من جمالية السياق/العبارة التي أدرج فيها. كذلك كان هذا العمل الخالد : عيوب هنا و هناك، ذابت في حفلة البدائع و الطرائف و صار يصعب تمييزها من جدران هذا البناء المتين الذي ملأ الدنيا و شغل الناس و لا يزال. ذلك الشيء الذي أثار إعجابهم بقدر ما أثار حيرتهم، و جعلهم يردّدون في الخفاء أكثر ممّا يردّدون في العلن : بحق الله، ماهو الماتركس؟

ضخامة البناء تجعل من الكتابة عنه أمرا شاقا و معقّدا أيضا، ليس لأننا قبالة ثلاثية سينمائية من ساعتين و ثلث لكلّ جزء من أجزائها، و لكن لأنّ العمل يرتبط بالكثير من اللغط و المفارقات و المجادلات بخصوص أغلب تفاصيله، ما يجعل جمعها و تنسيقها تشبه التحرّر من الماتركس، فهل أنت مستعد؟ أسفل قولي تجد زرّين : الزرّ الأزرق يريح بالك و أعصابك، يخرج بك من متاهة الحديث عن فيلم أكشن أمتعك لبعض الوقت و حان الوقت لتنساه. و الزرّ الأحمر، يسافر بك معي داخل المتاهة، حتى نفهم أكثر هذا الفيلم من مستويات كثيرة : القصة، السينماتوغرافيا، التأويلات، العيوب و التناقضات، لعلّ هذه المستويات تسمح لنا بالاقتراب من الحقيقة : هل الماتركس تحفة زمانه التي لا تتكرّر؟ أم إنه مجرد فيلم أكشن يحاول أن يبدو عميقا؟


Saturday, August 8, 2015

رسائل إلى حبيبتي

حبيبتي،
أكتب إليك مرّة أخرى من عتبات الزمن، حيث تنقسمُ الذواتُ و تتجلّى الاحتمالاتُ عوالما مختلفةً. أكتب إليك و أنا أراك هنا، عند ساحة الشهداء، أو في إحدى آرائك الحديقة العموميةِ. ينتابُني إذّاك جذلٌ طفوليٌّ و أشعر بحاجة إلى الكتابةِ.

لم يعد أحدٌ يجدُ معنى للرسائل الورقيّة في هذا الشطر من الزمانِ، لأنّ الناس هنا يعتقدون أنّ الرسالة بزمن وصولها، و لا أحد يدركُ أنّ الرسالةَ بزمن كتابتها. و كلّما قدّمت لنا التقنية سلاح تواصل جديدٍ نباري به الزمنَ كلّما ازدادت عزلتُنا.
"ها أنا في المقهى"، "هل أجلب معي خبزا؟"، "سنعقد اجتماعا بعد قليل". و حتّى "أحبّك" تصبح بفعل الرسائل الهاتفيّة القصيرة شيئا أشبه بالسلوك الشرطيّ، أو كابتلاع حبّة أسبرين محدودة المفعول.

أنا بخير، و الحياةُ تسيرُ عادية كما ينبغي لها أن تسير، لا هي بالشقية و لا هي بالبهيّة. خطّ متواصل فاتر يوحي بنهايته أكثر ممّا يوحي بامتداده. و مثلما تبطنُ الرسائل أكثر ممّا توحي به، فاعلمي أنّ خلف هذا الخطّ المتواصل، أكمات تضيقُ الحياةُ بها و تتّسع لها الرسائلُ. و لكِ وحدكِ يا عزيزتي أحاول أن أشرحَ ذاتي. إنّ بي شوقا دفينا يا حبيبتي! إنّ بي شوقا، و عسى بالرسائلِ أن تكفي!

لم يُطرف لها جفنٌ طيلة الليل. تناوبتنا الخيالاتُ و الأحاسيسُ و الرغباتُ حتّى رحم ضوءُ الصباح المبهرِ عينيْها المنهكتين. سافرت بكيانها إلى احتمالات عديدة و متناقضة لما يمكن أن تفعل. سكبُ الزيت المغلّى عليه و هو في الفراش مثلا، أو الاكتفاءِ بفضحه في السوق حين تشهد المدينة أكبر تجمّع لها. تهدّئُ الصورُ المفزعةُ من روعها قليلا، لكنّها لا تنجحُ في شفاء غليلها. كانت كلّ الصور و الأفكار و القصص المتلاطمة على شاطئ مخيّلتها تنتهي دائما عند صورة امرأة بلا ملامح، و كان التساؤل يتردّد دوما : من هي؟ من هي حبيبـ.. مصيبتُها؟

أعجزتها الصدمةُ أن تفعل شيئا في ذلك اليوم المشؤوم، و ربّما تمنت لو أنها لم ترَ تلك الورقة المطويّة و قد سقطت من سترته، فعبءُ المعرفة أثقل من أن يتحمّله الجبناء. و لقد اكتشفت أنها جبانة فعلا. كانت تبحث عن حياة هادئة مسالمة بسيطة قربه، و لقد كان يوحي بكلّ ذلك في كلّ تفاصيله. عرفته دوما شخصا ودودا، هادئ الطباع، مسالما، قليل الحديث، كثير المكارم، و لم تشكّ يوما في أنه أنسب الرجال لمشاركتها في تحمّل الحياة. فكيف ينكسر كلّ ذلك برسالة واحدة؟

علقت في مستنقع الأسئلة في اليوم الموالي، و كان كلُّ سؤال يدفع بها إلى هوّة أخرى. تداعى كلُّ شيء من حولها، و تقوّضت أركان الحياة في ذهنها. لم تعد تفهم أيَّ شيء. لم يعد هناك من أساس واحد يمكن أن تستند إليه لتعاود الوقوف. و حين يهتف الطفل الصغير بها، أو يضحك في جذل، ينخلع قلبها و تزداد حيرتُها. و هذا الشيءُ الجميل بحضني، أيغدو سرابا؟ و كيف تكون لحظات الفردوس التي يتحوّلُ أبوه فيها طفلا ثانيا، مجرّد غوث أحلام؟

امتصّت الأسئلة كلّ ذرة جهد في عضلاتها و لم تقوَ حتّى على إخفاء ذلك عليه. و لا على إجابته حين حاول أن يفهم ما بالُها. أمضت ليلة ثانية تتقلبُ في الفراش قبل أن تقرر أن تنتظر الرسائل القادمة. فلعلّها تكشف أمرا كان مكنونا.

حبيبتي،
هل كنّا نستحق ما جرى؟ و هل كان للتاريخ أن يكتب بشكلٍ آخر؟ و ماذا لو كان التاريخُ مثل المستقبل صناعتَنا؟ ماذا لو أن الماضي ضحيتنا و ليس العكس؟ أكنتُ صرت كاتبا مثلا؟ و هل كنت تصبحين إذّاك ملهمتي؟ و هل كان ذلك يحدث في هذا العالم الذي وجدنا فيه، حيث المكتبات تنفرُ من الكتبِ، و حيث القراءة فعلٌ طفوليٌّ مثل لعب الغُمّيْضة؟

هل كنتُ جبانا حينما اخترتُ طريقا ثانيا، أم كنتُ فقط واقعيا؟ هل أذعنتُ لحقيقة الأشياء التي تقضي باستحالة العيش من الكتابة، أم لجبني الذي فضّل الصراط "المستقيم"؟ أكنتُ قاتلا حينما تركتُ الكاتب في دفاتر طفولتي، و واجهت أقداري بشهائد جامعية تفهم عالمنا و يفهمها، أم تراني كنتُ مخلّصا؟

لقد تجرّدت من أشياء كثيرة حتّى أرضيَ واقعي المتسلّط، و لقد نجحتُ في ذلك إلى حدّ بعيد، و ارتسمت أمامي حياة جميلة واعدة، فيها ما فيها من المال و الولد و الضمانات الطيّبة. لكنّ أمرا داخلي ظلّ مهزوما و مقهورا، يطالب كلّ مرة بنصيبه من ذاتي و من شعوري. أعود إلى قلمي كأنني سكّير يعودُ إلى زجاجته القديمة، يمتصُّ منها روحه، و شقاه.

وحدكِ أنت قادرة على احتمال حروفي و أخيلتي، وحدك أنت في هذا الظلام الكئيب، ترين انفعالاتي و دموعي. و لكِ وحدكِ أستمرُّ في الكتابة.

أعادت الرسالةَ إلى مكانها الخفيّ، و عادت إلى أفكارها و تساؤلاتها. لا أسماءَ و لا عناوينَ. كأنّه يفعل ذلك بدافع الحذر. و اعتراها سخط شديد لعجزها عن فهم ما يحدث. و قررت أن تكشف هوية اللعينة، كلّفها ذلك ما كلّفها.

اِلتقطت أنفاسا عميقة و عادت تقلب الرسالة بتركيز أكبر. إنّ البداية توحي أنّ معرفته بها ليست عارضة أو طارفة. إنما هي جزء من الماضي القديم. فهل تراها حبيبته السابقة؟ و لكنّه لا يملك حبيبة سابقة. لا أحد من أصدقائه ذكر شيئا مماثلا، و لا هو حدّثها عن أمر كهذا، و ما كان ليفوتها أن تسأل. أيعقل أنه يجيد إخفاء ماضيه إلى هذا الحدّ؟ و إلى أيّ ماض تراها تنتمي؟ إنها تعرفه قبل الزواج بنحو ثلاث سنوات، و هي تعرف رفاق الجامعة و العمل، فهل هي صديقة من أيام الصبا؟ فكيف تجدّد اللقاءُ إذا؟ و لماذا الآن؟

كادت تجنُّ و هي تنتقل بأفكارها من وادٍ إلى واد. و خطر لها أن حسابه على الفايسبوك يمكن أن يجيبها. اِستغربت أنها لم تبدِ يوما فضولا تجاه حسابه على هذا الموقع، و لم تفكر يوما أن تبحث عنه هناك. راودها شعور بالذنب و هي تفتح حاسوبه، تأمّلت صفحة الرسائل فاعتراها الخجل لسخافة ما تفعل. لا يوجد شيء تقريبا. ذات الوجوه التي تعرفها تقريبا. أما على صفحته، فقد انتبهت إلى ما لم تنتبه إليه من قبل.

لم تكن تعرف مثلا أنه مولع بالموسيقى القديمة. تتردّد على صفحته أسماء كثيرة، عبد الوهاب، فريد الأطرش، أسمهان... تذكرت أنه يوما أخبرها بذلك في بداية تعارفهما، و تذكرت أن ذلك أثار استغرابها و تندّرها، لكنّها تجاوزت الأمر لأنها لم توله أهميّة تذكر. يبدو أن تلك التفاصيل ليست بهذا السخف في عينيه. أحيانا حينما يشغل السيارة، يتعالى صوت أغنية عتيقة من جهاز التسجيل، لكنّه يجهض الأغنية منتقلا إلى إحدى الإذاعات الخاصة. ما كانت لتعارض استماعه إلى ما يرغب فيه، لكن ربما لم تكن لتشاركه الاستمتاع بها، و هذا ما يثنيه عن المحاولة...

جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، أبو القاسم الشابي، بدر شاكر السياب... هل يقرأ فعلا لكلّ هؤلاء؟ أم هي أسماء فترة الدراسة، يستذكرها فقط لملء صفحته هنا؟ نادرا ما كان يقرأ أشياء كهذه، و أغلب قراءاته تتعلّق بعمله، لكنّ ذلك لم يمنعه من اقتناء المجلات الأدبية أحيانا. يجيبها في بساطة حين تسأله عن جدواها، مجرّد مجلات خفيفة لملء طاولة الصالون و لإيجاد ما يمكن أن يقرأ حينما يفكّر أحدنا أن يقرأ. الحقيقة أنها لم تكن تقرأ، و كان يعلم أنها لا تقرأ...

لاحظت أن إحداهنّ تصرّ على إبداء إعجابها بكل ما ينشر تقريبا، فانتقلت إليها. راحت تجوب حسابها صعودا نزولا. لا أثر له على صفحتها. لا توجد بينهما رسائل أو تعليقات. يبدو أنها صديقة قديمة أيضا. تصاعدت الدماء إلى رأسها، و امتلكها انفعال كاد يهب بقلبها. اللعين! إنها هي حتما! هي و لا أحد غيرها. إنها جميلة بما يكفي لتكون هي. علاقتهما قديمة لتكون هي. و الصمت بينهما يشي بحاجتهما إلى التراسل! إنها فقط تحتاج إلى دليل صغير، و لسوف تعثر عليه في الرسالة القادمة!

حبيبتي،
هل غيّرتنا السنين و التجاربُ؟ أم تراها أخفت فقط أرواحَنا خلف صدإ اللامبالاة و الحكمة الزائفة؟ أتراني الوحيد الذي لا يزال يحتفظ برقة حسّه الطفوليّ أم إنّ الناس من حولي يجاهدون بدورهم حتّى لا يُظهروا منها شيئا للملإ؟ لماذا نفعل هذا بأنفسنا؟ و لماذا نعدم الإنسان فينا؟ كثيرة هي الأشياء التي تؤلمني، لكنّ أكثرها إيذاءً هو عجزي عن إبداء ألمي.

بداخلي يا حبيبتي كائن لا تحتمل رقّته، ينكسر لمشهد قطّ يعرج، و كثيرا ما يسلبه المتسوّلون المحتالون أمواله. أظلّ طويلا منزعجا من مشاهد البؤس و الموت، و أجهد نفسي كي أحتفظ بألمي و دموعي لنفسي، لأنّ هذا ليس من شيم الرجال. و أنّ الرجل لا يبكي إلا في الشدائد، و أنّ الرجل يجب أن يظل قويا، حتّى لا يجزع الناس من حوله، و إلا بات إمّعةً و سخريةَ كلّ مجلس. بداخلي يا حبيبتي شاعر ذبلت حروفه، و حرّف مساره، و لم يبق منه غير حساسية مفرطة تجاه كلّ قبيح، لكن حتّى هذه يرفضها هذا الزمن. حتّى هذه، يعمل الزمن عمله حتّى يقولبني مثلما تقولب الريحُ الجبال و تنحتها مثلما تشاء.

غريب أنا يا حبيبتي. غريب مثلما كان جبرانُ غريبا. و إن كان يبدي ذلك بالكتابة، فأنا أكتمه بها. فليس لي غيرك قارئا، و ليس لي غيرك صدرا قبولا.

مسحت دموعها التي انسابت على خديها دون أن تدري، و تسللت إلى المطبخ لتعدّ فطور الصباح قبل أن يستيقظ. تدافعت على أبواب ذاكرتها موقف كثيرة بدا لها الآن كم كانت مفتعلة و كم كان هو فيها غير ما هو عليه. آلمها أنها حين استرجعت تلك الصور، أدركت أنها لم تكن لتتقبّل منه انفعالا غير ذاك الذي أبداه، و أنها بذلك تقرّه على ما كان يفعل، و يزيد من لوعته و جهده. آلمها أنها لم تكن يوما استثناءً في حياته، و أنها مثل الآخرين، مجرّد وجه آخر للزمان الذي يدفعه دفعا لأن يقتل نفسه و يبعث شخصا ثانيا. بدأت تفهم وجود صاحبة الرسالة و اكتشفت أنّ شوقها لمعرفتها لم يعد يشوبه الغضب بقدر ما يشوبه الفضول، و أنّ إحساس الخيانة تراجع وراء شعور ممضّ بالذنب، فزاد سخطها على نفسها و راحت تجاهد لكبت دموعها.

جاء إلى المطبخ و قد انتهى من إعداد نفسه. وضع سترته على الكرسيّ، و طلب منها استعمال المربّى الجديد ريثما يعود من الحمّام. لقد وضع الرسالة في المظروف حتما، و لا بدّ أنه كتب العنوان أخيرا. تطلّعت إلى حيث غرفة الحمّام في وجل، و قرّرت أن تغامر. لحظة مرّت كدهر بين امتداد يدها و بين خروج الظرف الخالي من كل عنوان. اللعين حذر جدا، كأنه لا يكتب العنوان إلا لحظة إلقاء الرسالة في صندوق البريد. من هي؟ من هي هذه المرأة الجميلة الأصيلة المتفهمة الرقيقة؟ من هي هذه المرأة التي تتواصل بالمراسلة دون أن ترسل ردودا؟ من هي هذه المرأة التي تملك كلّ ما يحلم به لكنّه يتزوّج غيرها؟ من هي هذه الحبيبة؟

حبيبتي، 
لا أزال أملك صورا قديمة أحفظها عن الزمن الجميل. أتأمّلها أحيانا فلا أكاد أصدّق كم كنتِ جميلة، و كم تغيّرتُ عمّا مضى. أخذتني الحياة مثلما أرادت أن تأخذني، و أشركتني في مسؤوليّة الرعاية و الكفالة. و وجدتُني أقولب طفلا صغيرا بيديّ قبل أن أتهيّأ لذلك. وجدتُني أفكّر في شأنه في كلّ آن، و وجدتُني أواجه هواجسي و مخاوفي بشأنه وحيدا، لئلاّ أنقل للناس ضعفا قد لا يجيدون مواجهته. و من يفترض منه أن يكون قويّا عارفا حكيما غير أبيه؟ و وجدتُني ألغي وجودي يوما بعد يوم لصالح هذا الوجود الجديد. فهل يا ترى كذلك هي فكرة الحياة؟ و هل تلك هي منقلباتها؟ ما الذي يدفعني للتفكّر فيك و الكتابة إليك غير هذه الحاجة الخفيّة أن أكون أنا بذاتي؟ منفصلا عن كلّ كيان بشريّ تعلّقتُ به أو علقت فيه؟ 

هل تفهمين إذا هذا العودَ الأبديَّ إليك؟ و هل تدركين مقدار حاجتي إلى تمثّلك؟ أنت لست أقرب الكيانات إليّ، لأنّك ذاتي نفسها التي تتجلّى كلما خافت من الذوبان. أنت أنا التي أحميها بعيدا عن الزمان فلا تخذليني و تشبّثي بالحياة!

لم تشأ أن تتبعه منذ خروجه. اِدّعت حاجتها إلى الخروج باكرا لشأن سريع، و ظلّت هناك في شارع الأقواس ترقب قدومه. خبر الجريمة الشنيعة بالمدينة يملأ صفحات الجرائد، المجرم الكهل يقتل مجرما آخر شابّا رافضا دورة الزمان، هذا ما كان ينقص هذا اليوم الحافل. أخفت وجهها بين الصحف و هي ترقب الشارع الكبير الذي يمرّ أمامها بإدارة البريد. هو ذاك! لماذا لم يتوقّف هناك؟ لقد عرّج بسيارته يسارا إلى طريق المستشفى! أتراه يسلّمها الظرف يدا بيد؟ أفزعها الخاطر و أسرعت خلفه و هي تمنّي النفس أن لا يبتعد عنها كثيرا. رأت السيارة تبلغ ساحة الشهداء فكادت تيأس من اللحاق به، حثّت الخطى إلى حيث ساحة النافورة التي لم تعد تعمل منذ سنين. حركة السيارات المتوجّهة إلى المستشفى كبيرة و تعطّل السير، بينما ينتشر طلاّب إدارة الكهرباء على أطراف الطريق غير عابئين بكل ذلك.

رأت السيارة متوقفة هناك في مدخل الحي القديم ذي الإسم الموحي بالأساطير الكثيرة التي رويت عنه. هل تراها تسكن في هذا المكان؟ تجاوزت نهج العرب، و تسللت إلى مدخل "أولمبيا". رأته من بعيد يتوقف أمام مبنى قديم مهجور، فانحبست أنفاسها و التصقت بالجدار لعلّه يمتصّها. أتراه مكان المواعيد القديمة؟ و ماذا لو أنه لا يزال يلتقيها هناك؟ لماذا الرسائل إذا؟ ربما لإضفاء شيء من الرومنسية على الموقف. رأته يتناول الظرف من سترته، ينظر إلى آخر الشارع قليلا ثمّ يدخل الظرف عبر فجوة صغيرة في الجدار. 

اِقتربت من المبنى بعد ذهابه فطالعها الخراب و الألوان الباهتة. فتح حلاّق متجره بالقرب من البناية، و أخرج منشرته، فأشاحت بوجهها فارتباك و عادت إلى أفكارها و حيرتها. كيف تستلم حبيبته الرسائل؟ لا بدّ من مدخل خفيّ إلى المبنى.

ـ يوجد منفذ من الخلف.

اِستدارت إلى الحلاّق في وجل. كان هادئا يداعب شاربه الكثّ و يشير إلى ممرّ جانبيّ ضيق. أردف قائلا : 

ـ كنّا ندخل إلى القاعة من الخلف، لأننا لم نكن نملك معلوم الدخول، و كان عمّ رشيد رحمه الله يشتمنا طويلا ثمّ يتركنا ندخل.

و عاد يتأمل المكان في شيء من الحنين و أضاف : 

ـ كلّنا يملك ذكرى مع هذا المكان.

اِزدادت دهشتها، و راحت تبحث عمّا يدلّ على هوية المبنى، فخاب مسعاها، لكنّ ذاكرتها تدخّلت فجأة لتمدّها بالعون، أولمبيا، قاعة، مهدمة و مهجورة... و من فجوة صغيرة أخرى، رأت ما يبدو أنّه كان يوما ما مقعدا وثيرا يصلح لمشاهدة الأفلام... يبدو أنّ زوجها رومانسيّ إلى حدّ لم تتوقعه. حان وقت الحقيقة. ربما هي المرة الأولى التي ستذهب فيها إلى السينما لمعرفة الحقيقة...

حبيبتي،
لا أعتقد أنني اخترتُ أن لا أكون كاتبا. فالكاتب أشجع من أن يجبن عن واقع الأشياء، لكنّني بحاجة إلى الكتابة حتّى أحتمل هذا الواقع و أقدر على مدافعته، و ربما أيضا حتّى أقدر على أن أحبّه. إنّ الحياة ليست بهذا السوء، لكنّها كثيرا ما تضيق بي و كثيرا ما أضيق بها. و إنّ الناس من حوليَ خيرة من فيها، لكنّني أخشى اهتراء روحي الرقيقة من فرط التواصل معهم.

لقد اخترعتُك و نفختُ فيك من روحي و صغتُك صورة سويّة بذهني كما يفعل الأدباءُ، لا بغاية الفنّ الذي يهبُه الكاتب للناس، و إنّما بغاية الفنّ الذي يتنفسه الإنسان و ينفثه حتّى يستمرّ، و بغاية الخيال الذي يصوغه المرء حتّى يحبَّ واقعه.

أنا آسف يا حبيبتي أنني جئت بك إلى الدنيا و قد كنت عدما، لكنّني أحتاج إليك و إلى كل ما تمثّلين فيّ من غرابة تجعل العالم موحشا من حولي. إنّني محتاج إليكِ لأنّك فكرتي عن مقاومة الزمن، و فكرتي عن الخلود.

حين خرج صباحا من غرفة النوم، مبتسما وديعا، بادر بتقبيلها و سؤالها عن الفطور. أدركت أنها بقدر ما ازدادت له حبّا، ازدادت منه خوفا. و لوهلة تمنّت لو أنّه كان فعلا خائنا. فلعلّ مرارة الغدر أهون و ألطف وقعا من مرارة عشق هذا الطفل الكبير.



6 آب 2015

Translate