Sunday, July 6, 2014

"قضية".. تراجيديا الدراما التونسية (مقال هادف)

حينما تسمع حديثا عن مسلسل تونسيّ، فكن على يقين من أنّك في رمضان. يبدو أننا ننتج المسلسلات التلفزية لسببين : لا بدّ من مسلسلات تونسية في رمضان فهكذا جرت العادة، و لا بدّ لأهل الدراما من عمل يحصلون بموجبه ما يمكنهم من العيش (عيشة النجوم طبعا، لأنه يجب أن يكون في كل بلد نجوم تلفاز).
و قد جرت العادة الكريمة أن ينجز مسلسلان قصيران في رمضان، كلٌّ لفترة أسبوعين، لحكمة لا بأس بها في نظري، فنحن لا نملك ثقافة الكتابة أصلا، و من يكتب خمسة عشر حلقة يمكن له أن يفتخر بإنجازه لسنين طوال. و لم يشذّ عن ذلك إلا كتبة قلائل، خابوا في بعض الأعمال، و نجحوا في أعمال أخرى. كما أن انجاز عملين يبقي الانتاج الدرامي في مرحلة تجريبية تجعل من كل عمل جديد أشبه بمخاطرة، خصوصا مع جمهور مزاجيّ و عسير الإرضاء كالمتفرّج التونسيّ. لذلك عوض أن ينتج عمل واحد قد يخيب، ينتج عملان قد يخيب أحدهما و ينجح الآخر.

إحدى تلك الخيبات التي أحدثت لغطا طويلا بعدها، أو ربما شرخا ظلّ هناك إلى اليوم.. عرضت في رمضان 2003، أعني بها دروب المواجهة، و هو إسم لا يوحي بشيء تقريبا، لكن شخصيات المسلسل قد يذكرها بعضهم : مصطفى العدواني صاحب المصنع الطيب، الساذج، لطفي الدزيري المحتال الطماع الذئب، فريال قراجة الصحفية اللامعة صاحبة المبادئ و الجمال و الأخلاق و كل تلك الأشياء الجميلة و زهير الرايس حبيبها و الذي لا يصلح لشيء إلا لأنه ابن مصطفى العدواني صاحب القضية.. لمن لم يذكر المسلسل فأعتقد أن ما دار بمخيلاتكم هو كل المسلسل تقريبا.
المسلسل بسيط، تلك البساطة المبتذلة، التي لا تصلح للارتقاء بالذوق بقدر ما تصلح للتعرف على مدى هبوط الذوق. صور تتكرر تقريبا مع بعض الاجتهادات المحتشمة، كأداء لطفي الدزيري مثلا. كان هناك شبه اتفاق على فشل المسلسل، لكن الحيرة كانت في تشخيص الفشل. لم يجد الإعلاميون (لأن كلمة النقاد لا تليق بالمرة) سوى اعتبار العمل "خياليا" و لا علاقة له بالواقع. أحدهم قال إن صحافة الاستقصاء غير موجودة في تونس، و أن هذا الأمر غريب عنا. و كانت إجابة أحد الممثلين أن من يريد الواقع، فليفتح النافذة صباحا. أما اللوم الأكبر الذي حاصروا به العمل، فهو خلوّه من "قضايا كبيرة".. 

طبعا أنا لا ألوم الممثل على نظرته المغرقة في العمق للواقع و الخيال، و لا ألوم الإعلاميين على العته التحليليّ الذي يلملمونه، لكنّ الأكيد أن هذه الكلمات البسيطة مثلت حجر الأساس الذي تقوم عليه الأعمال الدرامية أساسا، و أعتقد أن الأعمال التي شذت عن هذه الضوابط هي الأعمال التي نجحت، و هي أعمال نادرة جدا.
عمل هادف، فن ملتزم، قضايا كبيرة، جرأة شديدة، هي كل الصفات التي بتنا نقيس بها جودة الدراما. و صار الكتاب و المخرجون في سباق محموم أيهم يحشو عمله بأكثر عدد ممكن من القضايا، أيهم يتجرأ أكثر. أذكر قولة شهيرة للممثلة "الجريئة" فريال قراجة : أنا أول من ظهرت عارية الكمّين في التلفزة التونسية. أعتقد أن الجرأة الفنية نحت نحو هذا تماما. لم يعد الفن يتعلّق بالكيف، و إنما يتعلق بالكمّ. لا يهمّ كيف تجرّأت و لكن المهم أن تتجرأ. لا يهم كيف صورت رؤيتك للقضية، المهم أن تصور الكثير منها.

ما زاد من انحراف المشهد، هو التفاعل الشعبيّ. في بلد تمارس فيه الجريمة بالسترة، لا إعلام، و لا دولة، فإن الخلط بين العمل الفنيّ و البرنامج الاجتماعيّ أو السياسيّ، أمر وارد جدا، بل و عاديّ. تجاوب الناس مع برنامج اجتماعيّ يروي لهم ما خفيَ من الفضائح، مثلما تفاعلوا مع المسلسل الذي قدّم في السنة نفسها، و أعني به صيد الريم. مع العمل الكبير الذي قدمه الممثلون (عدا شقيقة البطلة التي اختفت تقريبا بعد ذلك) فإن أغلب الناس تعاملوا مع المسلسل كما تعاملوا مع قصص "سي عبد الرزاق"، و لا لوم هناك.. لكن المثير حقا، هو ردّة فعل منظمة الأعراف حينئذ. ثار مديرو مصانع النسيج و اعتبروا العمل اهانة لهم و لسمعتهم، ربما كان هناك مبرّر اقتصاديّ وراء رد الفعل، ذلك أن الصحافة تحدثت في تلك الفترة عن هجر الكثير من الفتيات لمصانع النسيج.
دور الدراما أن تؤثر فعلا على الواقع، دورها أن تفضح، و تصور ما يحدث، و حينما نقول تصور ما يحدث، فلا يعني هذا صورة النافذة التي تحدث عنها الممثل، فتصوير الواقع ممكن بعين الخيال، أو بريشة الخيال، أو بألوان الخيال، هو ذاك الفنّ اساسا. لكنّ حادثة صيد الريم، عبرت عن مشكل آخر تماما، مشكل تعامل التونسيّ مع العمل الفنيّ، إذ دائما ما تظهر صورة برنامج "المنظار" في الأذهان و نحن نشاهد أي شيء تقريبا. أي مسلسل يجب أن يحشر بالقضايا، لمتابعتها، هوس شديد بالفضائح و المشاكل، ثم التفاعل الشعبيّ و غير الشعبيّ مع عمل دراميّ كأنها قضية رأي عام حصلت بالفعل. هل يصدق التونسيون ما يحصل في المسلسلات بالفعل، أم إنهم لا يصدقون ما يحصل في البرامج الاجتماعية؟ 
و لو أن المسألة توقفت عند التفاعل الشعبيّ لهان الأمر. رمضان لهذه السنة، جاءنا بطرفة جديدة أبطالها أعوان السجون، حيث ثاروا على ما اعتبروه اهانة لهم و تزييفا للحقائق و تشويها لمهنتهم في مسلسل "مكتوب" (الجزء الستون على ما أظن). و لو أنني لم أشاهد ما صور المسلسل تحديدا، إلا أنني على يقين أنه لم يصور ما يحدث حقا في السجون، و لن يفعل لأن مجرد فعل ذلك يستوجب قطع الصوت و تشويش أجزاء من الصورة قد تتجاوز 50% منها.. و حينما نفذ أعوان السجون إضرابهم احتجاجا، تساءلت في دهشة إلى متى؟

إلى أن نتوقف عن اعتبار الفنّ حكومة تكال له ملفات التونسيين الحارقة ليعالجها، و نكف عن ربطه بالقضايا كأنه لا يعمل إلا وفقا لذلك. إلى أن نتوقف عن حصر الفنّ الملتزم بالوطن، كأنّ الالتزام بأية فكرة أخرى هو ضرب من الانحلال أو الانحراف. هو أن نتوقف عن اعتبار الفن هادفا أو غير هادف. لقد أودت هذه الرؤية المبتذلة إلى تفضّل الفنانين علينا بالتزامهم.. "لقد غنيتُ للوطن"، "لقد قلتُ شعرا عن مشاكل الوطن"، "لقد كتبتُ مسلسلا عن القضية".. كأنهم يفعلون ذلك حتى لا يؤخذوا بانحلالهم.. تصبح أعمالهم تفضّلا، و مطيّة، لا خلقا حقيقيّا منبعه ذات الفنان، و روحه القلقة. تصبح قضاياهم، تسجيل حضور حتى يترك و شأنه و يسكت الحاقدون.. 
ما "القضايا"؟ ماهو السؤال الذي لا يعتبر "قضية" و متى يسمح للسؤال بارتداء ثوب القضية؟ حينما يحب شاب ما فتاة مثلا، ألا تعتبر "قضية"؟ حينما يحلم طفل أن يطير، أليست قضية؟ بعضهم قضيته الوحيدة في حياته، أن يغيّر بيت الاستحمام، و أعتقد أن مسلسلا مصريّا صوّر ذلك بالفعل، و بكيفيّة ستعجز عنها القمرة (الكاميرا) التونسية لسنوات عديدة أخرى...
ما القضايا؟ و لماذا نسمّي فكرة ما قضية، و لا نسمّي أخرى كذلك؟ هل القضايا أيضا "بوجوهها"؟ هل للقضايا معارف يتكفلون بتقرير أيها الأهم و الأضخم؟ في الواقع، تحشر القضايا في الأعمال التلفزية كما هي، مادة خام متخشبة مهترئة، إنها حاضرة بوجودها لا بمضمونها، لذلك ينزع صاحب العمل، إلى الزجّ بشيء ضخم، شيء من الضخامة يمكن للناس أن يروه و يشهقوا، إن التفاصيل الصغيرة، تحتاج إلى عمق أكبر من أصحاب هذه الأعمال، و أحيانا أعمق من المشاهد التونسيّ، لذلك فهي نادرة الحدوث ككوكب الأرض، أو كشاعر تونسيّ.

حينما تأتي بقضية "ضخمة" و تلقي بها وسط المشهد، فلن تحتاج إلى تعديل العدسة، و تغيير زاوية الرؤية و المسافة، لن تحتاج إلى إخضاع المشاهد إلى تجربة مرئية مختلفة، أو إلى لمسة فنية شخصية جدا.. من منّا يحفظ أسماء مخرجي الأعمال الدرامية التونسية أو كتابها؟ لا أحد تقريبا، فكلهم متشابهون، كلهم يخضعون إلى كراس شروط ينقذهم من الحياد و الشخصنة. كلهم يبحثون عن الموضوعية في الفنّ، و هي جريمة يفترض أن يصادر بسببا العمل، حفاظا على صحة الأجيال القادمة. تصوروا، فنّا موضوعيا. هذا هو الخبل الذي تبثه الدراما التونسية، لاحظوا المواقف و الصور و الأفكار، و أمدّوني بموقف واحد يعكس اختلافا شديدا أو طرحا خاصا لا يتفق حوله الغالبية. جميعها مواقف يتبناها الرأي العام، حتى لكأن كتاب المسلسلات هم أقرب للصحافة من الأدب. هل تفرض الجهات المنتجة ذلك على اصحاب الأعمال؟ أم إن هؤلاء خوفا من المشاهد يحاولون كسب ود الجميع باللاموقف؟

حينما أتذكر مسلسل الخطاب على الباب، لا تتبادر إلى ذهني أية قضية جريئة، بل لا أذكر أية قضية (بالمفهوم المتعارف عليه) على الإطلاق. و كل ما أستحضره، هي مجموعة الشخصيات الفريدة و الفذة، و تطورها طوال العمل، و مشاكلها التي في غالبها مشاكل داخل الشخصية نفسها، و ليست مع شخصيات أخرى (سطيّش، عبودة، حفّة، الشيخ تحيفة..).. لم يقترن العمل قط بقضية ما، و لم يبد أن هدفه أصلا تذكيرنا بتلك المشاكل التي نعيشها و نراها كلّ يوم بالفعل، و مع ذلك فقد حقق العمل نجاحا لا يختلف فيه اثنان، و بات مرجعا للدراما التلفزية التونسية.
لماذا انقلب المشهد، و لماذا تغيرت المقاييس و الصيغ؟ ربما لأن عليّ اللواتي (كاتب الخطاب على الباب) كان فلتة مثلا، كان الاستثناء وسط كتابات هي أشبه بالتوثيق منها للخلق و الابتكار. و ربما لأن التيار غالب، تيار الرأي العام الذي لا أدري أيوجهه الإعلام أم يتوجّه به.. الأكيد أن الفنّ لن يتغير قبل أن تتغير العين التي تراه، و تقيّمه..



1 comment:

Unknown said...

جميلة يا حميدة.
كنت منتفرجش في المسلسلات ومنعرش علاش توا وليت نعرف.
بوركت يا شيخ هانتشكاًن

Translate