Tuesday, May 29, 2012

دولة القانون...

كانت ردة فعل النهضة على المحاكمات الأخيرة (قيس بن علي، عبد الوهاب عبد الله، الخ) متوقعة جدا و مفهومة، أولا لأنها تعول كثيرا على مبدإ جس نبض الشارع و من ثم تحويل مساره او اتباعه حسب شدة الاجابة، و ثانيا لأنها من عشاق العمل "القعباجي" المبنيّ على سلامة النية و الثقة المتبادلة و "الرجلة".. و هو ما سأبينه لاحقا.. على أن قرار اعفاء الـ81 قاضيا كان مبالغا في القوة و العشوائية، إلى حد لم يمنعني من تخيل هذا المشهد بمجرد أن سمعت الخبر..

السكرتير : سيدي الوزير، أعتقد أن المال لا يكفينا لبقية السنة.
البحيري  : مممم، سنطلب من سي حمادي أن يضيف قانون مالية تكميلي كالعادة.
السكرتير : اتصلت بالوزارة الاولى و قيل لي ان هذا مستحيل، يجب ان نتصرف بالمال الذي نملك.

هنا، وقف البحيري و قد اعتراه الاضطراب، بات الأمر يسبب مشكلا حقيقيا إذا، انه لا يكاد يلمس من الحوافز شيئا، رغم عمله الشاق في الوزارة (يجلس على مكتبه منذ السادسة صباحا كما قال وزير التعليم العالي المكافح). عليه ايجاد حل للمعضلة. خصوصا في هذا الظرف السيء الذي يتذمر الكل فيه من مردود القضاء.. عليهم اللعنة، ألا يريدون القضاء مستقلا؟ لماذا يتحمل هو مسؤولية ما يجري في المحاكم؟ إنه حتى لم يشرف على اعداد ملفات القضايا التي قدمت، انهم القضاة، انهم القضاة...
و لمعت عيناه في جذل و قد هو يهتف : القضاة!

السكرتير : عفوا؟
البحيري  : القضاة! القضاة هم الحل! هم المشكل و الحل. لقد جنوا على انفسهم على كل حال.
السكرتير : ما دخل القضاة بالـ؟
البحيري  : سنعد قائمة أخرى من القضاة لاعفائهم.
السكرتير : و لكننا اعفينا 81 قاضيا في الاسبوع الماضي.
البحيري  : نضيف إليهم عددا آخر. هل تعتقد أن الفساد انتهى؟
السكرتير : و لكننا لا نملك دلائل كافية لاعفائهم.
البحيري  : و هل كنا نملك حينما أعفينا الآخرين؟ على الاقل نحن متأكدون من تورطهم. اسمع معظم القضاة متورطون لذلك نسبة الخطإ ضئيلة جدا! احضر لي النرد و قائمة القضاة.

السكرتير : نرد؟!
البحيري  : اجل الا تعرف النرد؟!

احضر الرجل ما طلب منه رئيسه و هو يتساءل أية فكرة عبقرية سيأتي بها هذا المناضل الفذ.. ففرد الوزير الورقة و قسم الاسماء فيها الى مجموعات سداسية، و تناول النرد و قال "و لا تشاؤون إلا أن يشاء الله." و رمى بالنرد في ثقة ، ثم القى نظرة على القائمة و ابتسم في ثقة و ارتياح و هتف : ألم أقل لك؟! أ رأيت هذا الشخص، انه من مرتزقة القضاء، أنا اعرفه، و أعرف ألاعيبه، لا نملك عنه شيئا لكنني واثق من تورطه! سجل سجل!

السكرتير : و لكن القضاة لا يتـ..
البحيري  : يا ولدي اكتب و يزي بلا تمعجين!

و حينما انهى القائمة، تذكر أمر الحوافز، و قال في نفسه ان اعفاء متورط آخر لن يضير شيئا، و 10 قضاة او 11 عشر، الاعفاء هو الاعفاء.. هكذا عاد الى النرد و نظر الى القائمة. كانت الاسم الخامس يحمل اسم رئيسة جمعية القضاة، فتلبد وجهه و لعن الحظ في سره و قال : لنكتف بالقضاة العشر. أعد القائمة، و قل كالعادة اننا نملك الوثائق.

السكرتير : و لكننا لا نملكها يا سيدي.
البحيري (ساخطا) : و هل سننتظر حتى نملكها؟ أكاد اضطر للتنقل بالحافلة يا رجل! حتى النواب رفضوا ذلك ! انا لم أظلم أحدا، هؤلاء خونة و يجب تطهير القضاء منهم! لم أظلم احدا!

كان لسان حال السكرتير يقول إنه ظلم القانون و حرمته، و إن العشوائية التي يمرر بها و أصحابه القرارات و يعدون بها القوانين ستجعلنا نعول على النية الصادقة و "الرجلة" عوض التعويل على صرامة القانون و عدله. كان لسانه حاله يثرثر بأفكار كثيرة عن الفرق بين الثقة في القانون و الثقة في الافراد، بين من يركبون الحافلة لالتقاط الصور و بين من يركبونها لأن القانون أجبرهم على ذلك. بين من يقيلون المفسدين بجرة قلم، و بين من يعملون لايجاد ما يروطهم و يرسلون ما يدينهم للقضاء ليحكم فيهم.. بين وزارة عدل تهتم بتوفير ما يلزم عمل القضاة و بين وزارة تهتم بعملهم و مردودهم كأنهم يعملون تحت امرتها... لكن الافكار لم تتجاوز ذهنه لأنه تذكر عياله و مطالبهم التي لا تنتهي، فابتسم في ارتباك و تناول القائمة الجديدة و مضى لشأنه..

أما أنا ففرغت من خيالاتي و شرودي، و انا اتساءل ان كان السكرتير من جماعة المؤتمر أم التكتل..


Tuesday, May 1, 2012

الفايسبوك يكتب تاريخنا..

من أسوا ساعات اليوم، هي تلك التي تلي الغداء مباشرة، البطن الممتلئة، الحاجة الى النوم، المكتب الكئيب، و قائمة الاعمال المثيرة للغثيان، و احدهم على الفايسبوك يلصق اسمك باحدى الصور، لتجد نفسك مكرها على تحمل التذكير المستمر ان احدهم "علق على صورتك." عشرات منها في الواقع.. 
" موش تصويرتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي!!!!!"

لكن الفايسبوك لا يهتم لمعاناتك، عليك أن تفتح الصورة و تفصل اسمك عنها. هنا، مفاجأة سعيدة أخرى : طبيعة الصورة : 


تروي الصورة رسالة من "ملك انكلترا و السويد و النرويج" إلى "الخليفة ملك المسلمين في الاندلس هشام الثالث" يرجوه فيها بكل تذلل أن يقبل ابنته الاميرة و حشدا من رجاله أن ينهلوا من علوم الاندلس و حضارتها، و هو ما اجيب بالقبول و المودة من الخليفة الاندلسي... و تنهمر تحت الصورة امطار التسبيح و التهليل و التكبير كأن ما حدث كان بالامس القريب، أو كأن الاندلس لم تعد بعد اسبانيا الكاثوليكية. و لكن يزيد الفايسبوك من سعادتي أكثر، فقد قفز الكثيرون إلى ما يجب استنتاجه : كم كنا عظاما زمن الخلافة، و كم بتنا صغارا اليوم بدونها. اذا : الخلافة هي الحل لكل مشاكلنا.

و لأن التساؤل هو أول ما اقوم به حينما أتلقى معلومة جديدة، فقد قرأت الرسالة و الجواب عليها و أنا أتساءل دون توقف : 
ـ هل وجد ملك لانكلترا و السويد و النرويج معا؟
ـ هل وجدت انكلترا زمن هشام الثالث؟
ـ هل يوجد من يدعى جورج الثاني و هل تزامن حكمه مع حكم هشام بن عبد الملك؟
ـ هل يقبل ملك على نفسه كل هذا التذلل (خادمكم المطيع) حتى و ان أرسل لملك أكثر منه قوة و نفوذا؟
ـ من كتب الرسالة للملك بالعربية؟ و هل هذه عربية الاندلس في ذلك الزمان؟

و منذ بداية البحث، أدركت أنني أمام رسالة وهمية، فجورج الثاني الوحيد في تاريخ انكلترا، هو الذي حكم بريطانيا العظمى بين 1727 و 1760.. و هو زمن يبعد عن زمن هشام الثالث نحو ثمانية قرون. كما أنني لم أجد اي توحيد للممالك الثلاث التي تتحدث عنها الرسالة، و كل ما وجدته هو ملك واحد للدنمارك و النرويج و انكلترا، و هو أيضا بعد فترة حكم هشام الثالث. فضلا أن مقارنة كتب ذلك الزمان (طوق الحمامة مثلا) و هذا الكتاب، تثبت بيسر أن الرسالة لم تكتب في ذلك الزمن.

"هذه الرسالة لا أساس لها من الصحة يا سادة، راجعوا هذه المعلومات." 
"تعرف خير مالعلماء ياخي؟"
"أي علماء؟ نحكي معاك بالمنطق."
"منطق؟!" (من الواضح أن الكثير من الضحك الساخر قد اطلق بعد التعليق.)
"فسر لي كيفاش واحد من عام 1700 يبعث رسالة لواحد من عام 1000؟ "
"المؤرخ الكبير راغب السارجاني، قالها. تعرف د. راغب السارجاني؟"
"لا ما نعرفوش."

و خيّل إليّ أنه نظر إلى رفاقه نظرة هازئة من نوع "ريتوا ـ جاي ـ يتفافى ـ و هو حتى ـ راغب السارجاني ـ ما يعرفوش".. لكنني سألته في اهتمام :
"هل هو دكتور في التاريخ؟"
"بل في الطب، و لكن... لماذا لا تريد تصديق المسلمين؟ لو كان مؤرخا يهوديا لصدقته!"
"ربما، لأن المؤرخ اليهودي مؤرّخ في نهاية الأمر، و لا يمكن أن يقترف حماقات منطقية كهذه."
"زايد غسلوا لك مخك!"

و هكذا مضيت و قد أدركت أنني أنا من تعرض لغسيل المخ، لأنني لم أشأ تلقي معلومة تتقاذفها المتضادات كالثورة التونسية.. و هذه التجربة هي واحدة من عشرات التجارب التي تعرضت لها على الفايسبوك خصوصا و في الحياة مع الناس بصفة عامة. و لكي لا يذهب البعض أنني أتوجه بقولي إلى شق دون غيره (مادام البلد قد قسم إلى قسمين)، فأكثر ما تجد عند القسم الآخر من فبركة للتاريخ، هو أقوال المشاهير و الخالدين، ترى من ذلك العجب العجاب حقا. و الأغرب أن أهله يدافعون فيستميتون في الدفاع، كأن الاقرار بالخطإ كريهة و جرم.

و هكذا، تحوّل بن خَلدون إلى ناطق رسميّ باسم هذا الشق، فهو يدعوك أن تنافق او توافق او تغادر البلاد. و لا أعرف أ قال الرجل هذا الكلام لحاكم تلمسان الذي اهداه المقدمة، ام قال ذلك في ندوة صحفية اقيمت عند استقباله بالقاهرة. و حينما تطالب بالمصدر، يهيج الناس عليك و يجن جنونهم، أتكذبهم؟ أتطعن في شرف ذاكرتهم؟ و لكن الكتاب هنا، و يمكن البحث فيه كما تشاؤون، فأين ما تقولون؟ هناك حتما نسخ أخرى فابحث عنها بنفسك و ستجد ضالتك! المهم أن كلامه مادام يصب في مصلحتنا، فهو كلام صحيح لا ريب فيه.
و كما أن هناك أعلاما وهبوها عشرات الاقوال المأثورة، فهناك أقوال أخرى وهبت عشرات الأعلام ايضا! خذ مثلا قولهم "مشكلة الديمقراطية أنها تجبرك على سماع الحمقى."
فقد قال هذه رينيه ديكارت René Descartes الفيلسوف الفرنسي الذي عاش في عصر الملوك (و لا اعرف كيف عاش الديمقراطية و عرف مساوئها) و قالها أيضا Blaise Pascal اجل ذلك المخترع الفرنسي، و قالتها Isabel Allende المناضلة التشيلية، و ربما وينستون تشرشل ربما لأنه معروف بأسلوبه الساخر. و حينما يمتد ذهنك للتساؤل، تبدأ العصبية بالعمل. 

"احترم نفسك، و انا سيدة محترمة و لا اسمح لك بمخاطبتي بهذا الأسلوب!"
"اي اسلوب؟ تساءلت أين قال ديكارت هذا الكلام؟ هناك حتما كتاب ما ذكر فيه هذا الكلام، لا أظنه قاله في تصريح تلفزي. أو في تأبين أحد الاقارب"
"عندي أولاد و ما نسمح لكش تحكي معايا هكة، ديما ساكتة لك اما هذا اخر تنبيه!"
طبعا تجاوزتّها، لأنني لا أحب أن تتحول المناقشات الى حديث عن العائلة و الاولاد و التنبيهات.. و لكنني صدمتُ لهؤلاء الذين يدعون الفكر الحر و سلاسة العقل و القدرة على تقبل غرائب الحياة. كيف للتعصب أن يعمل فيهم هذا المعمل؟ كيف تنجح معلومات كهذه على الفايسبوك ان تتغلغل فتبلغ عددا هائلا من الناس، فتنقش في عقولهم قبل ان يهمّ أحدهم بالتساؤل عن صحة الكلام من عدمه؟

إن الخطر وراء ما يحدث، لا يكمن في قدرة هذه التقنية على نشر الاشاعات، بل في قدرتها العظيمة على تزوير التاريخ! فنحن يا سادة أمة لا تقرأ، او الادق : امة اقرا على روحك يا ولدي باش تنجح و تولي طبيب. و هو شعار يحتقر كل محاولة للتعلم لا يرجى منها صنعة او مال، و هو شعار قطع لسان التاريخ، و اخرج له لسانه هازئا به. و لأن الانسان بحاجة غريزية الى العودة الى الجذور، فإنه سيبحث عن من يوفر له الاجابة بايسر السبل، و لأن الانسان يميل الى تصديق ما يحب تصديقه، فالصفحات "الموسوعية" الفايسبوكية منقسمة تقريبا الى شقين (كما هو حال تونس، او كما ارادوا لها ان تكون) كل شق يقدم لمتابعيه و المؤمنين به، تاريخا على قياسهم. فعند هؤلاء، كان عمر بن الخطاب بطاشا رعديدا، يكره النساء و يحتقرهنّ، و عند الآخرين كان عبد الحميد الثاني خليفة بارا عادلا ذي مبادئ.. و عند هؤلاء كانت دولة الاسلام تعيش في عز و رخاء حتى تآمر عليها المتآمرون و قسموها فأصيبت الامة بالضعف و الهوان و التخلف، و عند الآخرين ما عرفت الامة ازدهارا مع حكم الخلافة قط.. و بين هذا و ذاك، يظل تاريخنا منتفا متفرقا، ضائعا لا يعرف له حق من باطل..

و منذ محاولة بن خلدون الفذة التحقيق في تاريخ الامة، و فرز روايات المؤرخين الاوائل، لم يأخذ أحد المشعل عن بن خَلدون، و لم نرَ بعد رجلا جديدا يتجرأ على تاريخنا فينبش فيه، و يخرج عوراته، و اكاذيبه و خرافاته و يكشف لنا بطولات لم نكن نعرفها، و فضائح داراها المنتصرون و حاولوا طمسها.. لم نر رجلا يقول إن التاريخ ليس مجرد نقل لأخبار تناقلها الاجداد جيلا بعد جيل دون التيقن من صحتها، و أن التاريخ ليس مجرد كتب تروي احاديث العامة التي تغلبها المبالغات و الزيادات. لم نر رجلا يطلب أن ينبش في الحفريات، و الاماكن، و ان يدرس الاثار الادبية دراسة علمية حقيقية، كتلك التي مارسها الاوروبيون مع تاريخهم.. ان التقدم يا سادة، يبدأ مع التصالح مع التاريخ، يبدا مع تعرية الحقائق مهما كانت موجعة او جارحة أو مذلة، لأن من يعيش على تاريخ وهمي، كفيل بمستقبل وهميّ أيضا.. و في انتظار ذلك، اذكروا المصدر، و تساءلوا.. تساءلوا يرحمنا و يرحمكم الله!


Translate